سوسن البرغوتي
يخطئ أدعياء نظرية المؤامرة بادعائهم أن أمريكا هي التي تقود الثورة الشعبية العظيمة في تونس ومصر من وراء الكواليس، وجذوة الشعلة ستمتد أفقياً وعمودياً، حتى تشمل كل الأقطار العربية، وتلك رؤية ساذجة يرتكبونها، بينما المحرك والمحرض الرئيس لها هو الشعب العربي، الذي فاض به كيل القمع والاضطهاد والاستبداد، ولا بد من زلزال، يطهر الأرض، لتطرح ثمار الإصلاح والتغيير الجذري، بعيداً عن أي تبعية لأي نفوذ خارجي.
وإلى أن يستقر الوضع، وتهدأ امتدادات هذه الارتجاجات، ستتخللها رياح الخبث والخبائث، وتحاول النيل منها. لكن لا بد ألا نغفل مطالب الشباب، بنداً بنداً، وغايته من تحقيقها، فالحرية والكرامة والعدالة، ليست مجرد شعارات بقدر ما هي أيقونات ثابتة للثورة، دون إنقاص أو إسقاط لأي منها، وإطارها العام، مشروعية تلك المطالب، لتحقيق الاستقرار والاستقلال الحقيقي.
مجريات الأحداث المتسارعة، بدءًا من تونس الكريمة ومرورًا بمصر العزيزة، محطات لإعادة تشكيل الوطن العربي، كما يرضاه الشعب، لا كما تخطط له القوى الاستعمارية، والبداية تخلص البلد من نظام، طعن بكل المعايير والمصالح الوطنية، معتمدًا على استفراد السلطة، وبذا تكون الثورتان، تخطتا حقبة سلطة اللون الواحد الشمولي المستفرد بالقرار وتوزيع الثروة إلى منتفعين وانتهازيين حولها، إلى القبول بالتعددية والشراكة والتشاور الوطني، دون إقصاء الأحزاب والحركات الوطنية أياً كانت، ومنها الإسلامية العربية المعتدلة المؤمنة بما سبق، أي غير المتشددة والتكفيرية والتخوينية لما عداها.
لا يوجد قادة للثورتين، رغم أننا نتوقع ظهور وانبثاق قيادات منهم، بل يتحركون بشكل جماعي متناغم مع الإصرار على التغيير الداخلي، فزمن فردية القيادة أيضاً انتهت، وهذا الأمر، يدعو إلى ارتقاء الوعي العربي إلى مستوى فرق عمل متكاملة.
كما أن ثورة الشباب ليست مسيسة، بمعنى أن السياسة الخارجية، ستُؤتي ثمارها، عند تحقيق ثوابت الثورة الشعبية بالداخل، وقد تأخذ زمنًا لا نستطيع استشفافه، حتى يتم الاستقلال والسيادة بكل تجلياتها، فلا يجوز أن نطالب الشباب الثوار بالمرحلة الأولى بما لا يتحملون حول القضاء على منظومة كاملة، بسرعة البرق، كما يحسب البعض. بيد أن الاضطراب الاقتصادي ومحاولة توظيف الثورة من أطراف داخلية وخارجية، معوقات حقيقية وصولاً للأهداف المنشودة، وجانب سيوظفه كل طامع بوحدة البلاد والعباد.
كلما نجحت الثورة وخطت خطوة للأمام، تلقت دعماً شعبياً عارماً ويتبناها كل أبناء الوطن العربي، ويشتاط غضبًا وحنقًا زعماء الفساد والديكتاتورية، والتبعية للهيمنة الأمريكية والصهيونية، لأنهم يوقنون أن دورهم قادم. وهنا لا بد أن ننوه إلى الفرق بين ثورة شعب ضد نظام اختلقته تلك القوى الاستعمارية الإمبريالية، وبين ثورة مضادة تعزز تلك التبعية، مما يعني تقسيم البلاد إلى دويلات وكيانات لا تملك من أمرها شيئاً، تبقي على مشروع الهيمنة على مقدرات وثروات البلاد العربية قاطبة.
الاستقرار الاقتصادي، أمر لا بد من التركيز عليه، خاصة أن السياسة لا تنفصم عن الاقتصاد بأي حال، وتحقيق هذا الاستقرار، يعني ضخ أموال طائلة للنهوض بالوطن مجددًا، وتنفيذ مشاريع تأجلت بسبب النهب والسرقة، فالإسراع برحيل كل النظام، هو استحضار عاجل للاستقرار، وكف اليد الخارجية عن التدخل واستغلال الحاجة إلى المال. ويجدر الذكر، أن الحديث لا يتطرق إلى فلسطين والعراق المحتلين بقوات وقواعد عسكرية، فالاستثناء هنا ليس قاعدة شاذة، بقدر ما هي حالة احتلال ووضع اليد المباشر، وليس نفوذًا وحسب، مما يتطلب من الشعب جهودًا مضاعفة للتخلص من احتلال مزدوج داخلي وخارجي مباشرين بآن.. يقابله ثورة ومقاومة. إلا أن الثورتين الوليدتين تمثل وتعني كل أبناء الوطن العربي، وبهما الخلاص من أنظمة الرجعية والمتصهينين و/أو المتهودين والمتأمركنين، وما يُسمى "الشرق الأوسط الجديد"، لنشكل وطننا العربي من جديد كما نريد كأحرار نستحق أوطان ذات سيادة مطلقة، وحسب قرارات سلطة الشعب لا سلطة "الرباعية" ولا قرارات دولية صنيعة الدول الإمبريالية الاستعمارية. والإرادة الشعبية هنا، تعني جماعياً ألا يحتكر نتائج الثورة حزب أو حركة، إنما يشارك كل المواطنين، في عملية الإنقاذ من براثن هذا النظام العربي الفاشي والفاسد المفسد، كما تعني أن عهد الظلم قد انتهى، وما هو قادم، سيكون عهد مختلف جوهرياً، بالنهضة والتحديات بآن.
التحدي الأكبر للثورتين في تونس ومصر، هو استمرار النفوذ الخارجي، ومحاولاته التي لا تتوقف لاستثمارهما، بإبقاء السياسة الخارجية بيد هذا النفوذ، على اعتبار أن الشعب يريد تغيير النظام، وكان ما أراد له داخلياً، وهذا متفق عليه حالياً، حتى من قبل القوى الاستعمارية في العالم، سواء أكان إعلامياً أو سياسياً، من خلال التصريحات الأمريكية والأوروبية وغيرهما، بضرورة انتقال تداول السلطة سلمياً، مما يعني الاستغناء عن هؤلاء الحلفاء الساقطين الذين احترقت أوراقهم في بلادهم وهذا لا يخدم مصالح الغرب الاستعماري، لكن ما يدحض هذه التكتيكات المتحركة والمتغيرة الناعمة والتي تبدو متفهمة وداعمة لحقوق الشعب، بسبب ما تكبدته القوات الغازية للعراق وأفغانستان وفي مقدمتها الأمريكية، من خسائر اقتصادية وبشرية هائلة، وكنتيجة لعدم القدرة على شن المزيد من الحروب، لأنها لم ولن تجلب لا للكيان الصهيوني ولا لأمريكا أي مكاسب وإنجازات، ما ثبت بالفعل أن انتصار لبنان وقطاع غزة الصامد من جراء حصار (الأشقاء) العرب، واستمرار المقاومة بالعراق. رغم ذلك، سيجدان فرصة ذهبية، لتحقيق براغماتية مغلفة بشعارها الليبرالي المزيف وهو الربح والكسب والمنفعة للجميع!. وبالتالي، تعزز وجود (إسرائيل) كدولة مجاورة معترف بها على حدود الـ67، وبترتيبات ترضي المنخرطين بعملية التسوية، وتفتح البوابات جميعها أمام استقبال (الجار) على جميع الأصعدة.
العقد العربي واحد، وقضايانا مرتبطة ببعضها، ولا يجوز بأي حال أن يتم توظيف دماء شهداء مصر وتونس لمصالح خارجية، وربما في المستقبل القريب، ستجتاح الثورة الضفة الغربية، فهل تكون نتائجها لأجل تقبل الوجود الاستعماري في فلسطين؟!.
لذا مرة أخرى، نشدد على أهمية يقظة فصائل المقاومة ووعي الشعب العربي وتيار الممانعة، بحيث لا يدفع فاتورة الثورة الشعبية، السودان بتقسيمه إلى شمال وجنوب وربما دارفور لاحقًا، العراق بتكبيله بالاتفاقية الأمنية وقواعد عسكرية دائمة وتقسيمه، اليمن انقسام الشعب، وصولاً لتقسيمه أيضا، وفلسطين بنشأة كيان هزيل، له ما يريد بنظامه الداخلي، وللكيان الصهيوني ما يشاء برسم سياسته وتحديد هيكلته، يُسمى دولة فلسطينية، قبل التحرير.. لنبدأ بثورات شعبية نقية وصافية، ولننتهِ بدويلات داخل القطر الواحد، مقزمة ومهمشة تعكر صفو ما نصبو له جميعًا.
إن تفجير أنبوب الغاز الذي يزوّد الكيان الصهيوني في سيناء رسالة أولية، عن توازن الثورة بأطروحاتها الداخلية والخارجية، فهل وصلت إلى العدو، وهل تكون نواة مقاومة في مصر، لتتشابك خطوط مطالب الشعب مع مقاومة ترفض السلام المزعوم مع الصهاينة، بالإضافة إلى تصعيد هجمات المقاومة العربية إلى قلب الثور الاستعماري الهائج، لتشعل الأرض تحت أقدامه، وهؤلاء الخونة، ديدنهم ومعبودهم الدولار والخنوع، حتى أقدامنا الحازمة بسحقهم.. فلنواجه وبتحدٍ قوي، فلم يعد لنا إلا الكرامة، ولن نحصل عليها، إن لم نمتلك الحرية.
في غمرة الأحداث الملتهبة واشتعال قد يمتد إلى أكثر من قطر عربي، على جميع الوطنيين أن يدركوا مدى التحديات، فالعقلانية والدروس، علمتنا عبرة هامة، ألا نخسر بمكان وننتصر بآخر، ويبقى الانتصار والدعم لمشروع التحرير العربي المتوازن والشامل ككل لا يُجزأ، وإن كان قطريًا، إلا أنه في نهاية المطاف، سيعم الخير وتشرق فجر الحرية من شرقه إلى غربه، ومن محيطه إلى خليجه.
No comments:
Post a Comment