إهداء إلى روح محمد البوعزيزي وخالد سعيد وكل شهداء الاستبداد
سامر الأحمر
عندما أحرق محمد البوعزيزي نفسه لم يكن يعلم أنه أطلق شرارة ثورة لن تتوقف حتى تحرق الطاغية.
التقط شباب تونس شرارة البوعزيزي، وقرر أن يرفض العهر السياسي الذي رفضه البوعزيزي.
انضمت معظم فئات الشعب إلى شباب تونس الثائر رافعة مطلباً واحداً ألا وهو إسقاط النظام.
سقط النظام أو بتعبير أخر أحببناه ونحب استخدامه بعد أن استخدمه التونسيون ( بن علي هرب).
نعم، هرب بن علي وسقط نظامه وتنسم الشعب التونسي رائحة الحرية التي طالما حلم بها.
توجهت كل العيون وكل القلوب إلى تونس فرحة بما حققه هذا الشعب آملة في أن تنقل هذه الثورة إلى بلادها علها تستنشق هي أيضاً رائحة الحرية بعد أن أزكمت رائحة الفساد والاستبداد أنوف العرب.
خرج علينا الكتاب والمفكرين بخصوصية التجربة التونسية، وفرادتها، وعدم إمكانية بل واستحالة نقلها إلى أماكن أخرى.
وحللوا وأسهبوا بفوارق واختلافات، وهي صحيحة في أكثرها، ولكن أو ليس قاسم الفساد والاستبداد والفقر والجوع والبطالة والحنق والغضب وتكميم الأفواه بل والعهر السياسي مرة أخرى هو قاسم مشترك يذلل كل الفوارق الأخرى.
لقد لوث الكتاب أفكارنا بأن الشعوب العربية غير قادرة على التغيير وأن الأنظمة الحاكمة هي كالقضاء والقدر الذي لا مناص إلا للتسليم بها وبأمرها.
لقد كان الدرس الأهم الذي قدمته تونس هو أن الثورة ممكنة، وأن سقوط الطواغيت والديكتاتوريات أمر غير مستحيل وأن لا شيء يستحيل مع الإرادة.
وأن الشعب قادر على التغيير إذا ترك خوفه ووجله.
أو كما قال يوماً شاعر تونس الأشهر:
إذا الشعب يوماً أراد الحياة فلا بد أن يستجيب القدر.
لم يدري البوعزيزي ما جنتاه يداه وبأنه أصبح رمزاً لثورة لن تتوقف عند حدود تونس، وأنها ستنتقل إلى دول عربية أخرى، وربما ستحدد هذه الثورات مصير العرب ومنطقة الشرق الأوسط لعقود طويلة قادمة.
لم تنطفئ الشرارة التونسية بل التقطها شباب مصر وضغطوا على زناد ثورتهم.
كان الزناد هذه المرة زراً على لوحة حاسب وبضغطه تم الإعلان عبر صفحة " كلنا خالد سعيد" في الفيس بوك أن يوم الخامس والعشرين من يناير هو يوم انطلاق الانتفاضة المصرية.
لم يكن الطريق واضحاً أو محدد المعالم ولكن الإصرار والاستمرار والتضحية وازدياد المشاركين في هذه الانتفاضة حولها إلى ثورة سيتوقف عندها العالم طويلاً بالبحث والدراسة.
بدأت الثورة بمائة وخمسين شاباً فقط من الشباب المتعلم والميسور الحال الذي ينتمي للطبقة الوسطى التي كادت أن تنتهي في مصر وفي غيرها من الدول العربية، ولكن سرعان ما انضم إليهم العديد من الشباب الحانق الغاضب في مقابل سلطة تصم الآذان عن سماع إلا ما تريد أن تسمعه وعن تصديق إلا ما تريد أن تصدقه.
اعتقدت السلطة أن الشباب سينسحبون خوفاً من بوليسها ومن كلابها لتعود من جديد وتمارس عهرها السياسي ولتسير في خطط التجديد والتوريث تاركة للشعب حرية الكلام في بضع جرائد لا يطلع عليها أحد وحرية " التسلية" في برلمان شعبي أو موازي وهي تراقبهم كمن يستمتع بمشاهدة فيلم أو مسرحية وكأن الأحداث تجري في عوالم وأماكن أخرى.
مع مضي الوقت ازداد الشباب إصراراً وحسماً،وما كان للدماء التي سالت وللشهداء الذين تساقطوا إلا سبباً إضافياً لمزيد من إصرار الشعب ولزيادة أعداد الثوار وتمسكهم بتكملة المشوار انتصاراً لأرواح شهدائهم.
ومع مضي الوقت ارتفع سقف المطالب ليصبح أن ( الشعب يريد إسقاط الرئيس).
وبعد كل خطبة ومع مضي الوقت كانت المطالب ترتفع أكثر وأكثر إلى أن وصل المطلب إلى أن ( الشعب يريد إسقاط النظام).
لم يكن القائمين على أمر البلاد يدركون أن زيادة التناحة كانت لصالح الشعب الذي رفع سقف مطالبه ولم يعد يرتضي بأنصاف الحلول.
ولم يكونوا يدركون بأن البلطجية والكلاب والإبل والحمير لم يكن لها من فعل سوى زيادة تماسك الشعب أو بتعبير أخر إعادة تماسك هزته الخطبة الثانية بما احتوته من محاولة لاستجداء العواطف.
نعم، وحدت الحيوانات في الطابقين الأسفل والأعلى الشعب وجعلته أكثر تماسكاً.
لم يكن للبوليس ولا للبلطجية ولا للحيوانات ولا لكل مظاهر الرعب الأخرى أن تسبب القلق على مستقبل الثورة. ولكن ما سبب القلق لاحقاً هم "الحكماء" والمهرولون من الأحزاب التقليدية الذين سارعوا إلى طاولة الحوار.
عندما بدأ حوار "الحكماء" مع أركان النظام كان الشعب قد وصل إلى مرحلة القطيعة النهائية مع هذا النظام.وصل إلى مرحلة اللاعودة.بلغ المسافة الأطول على طريق تحقيق شعاره في إسقاط النظام.وأخر ما كان يلزم هذا الشعب هو "حكمة"" الحكماء".
التف المتحاورون حول عمر سليمان رئيس المخابرات العامة الأسبق وهو يملي عليهم شروطه جالساً في وسط القاعة وفوق رأسه صورة كبيرة ثابتة لرئيس صغر وبدأ يترنح تحت ضربات شعبه.
وخارج القاعة استمر مشهد البلطجية والدماء في كناية عن نظام يلفظ أنفاسه الأخيرة وفي كناية عن شعب لن يتوقف حتى يبلغ هدفه.
تمكن الشعب بحسه الذي لا يخطئ من تجاوز مشهد المتحاورين و"حكمتهم".
لقد كان مطلوباً من المثقفين ومن الأحزاب أن يحاوروا الشباب ليصوغوا معاً الأهداف والخطط والاستراتيجيات بدلاً من محاورة النظام الفاسد.
تمكن شعب مصر كما تمكن شعب تونس من قبله من مواجهة كل التحديات والصعوبات،وتجاوز كل العراقيل والصعوبات، لينجزوا أول ثورتين سياسيتين شعبيتين في تاريخ العرب.
قد يقول قائل بأن الثورتان لا تزالان في بداية الطريق.هذا صحيح، والصحيح أيضاً أنهم يسيرون في الاتجاه الصحيح.وأن لا أحد في العالم يقف في نهاية الطريق.
والصحيح أيضاً أن هاتين الثورتين قد فتحتا الطريق أمام الشعوب العربية كاملة لإعادة صياغة حاضرها ومستقبلها.
يتساءل البعض: هل يمكن أن يكون مؤتمر القمة العربية القادمة مؤتمر تعارف بين الرؤساء العرب؟
هل هذا تساؤل أم طرفة؟
طرفة، ربما نعم.
سؤال، ربما نعم أيضاً.
أو ليس الدرس الأبلغ الذي وصلنا من تونس ومصر أن كلمة مستحيل تم إسقاطها من قاموس إرادة الشعوب العربية.
فهل هناك من "يفهم" أو "يعي" الدرس؟!
No comments:
Post a Comment