لم نفهم حتى الآن من الذى أمر الشرطة بالاختفاء أثناء الثورة، ولا من الذى أمر بفتح السجون وإطلاق نزلائها لترويع الخلق، ولا من الذى أمر بإطلاق الرصاص على الجماهير الغاضبة، كما أننا لم نفهم من الذى أمر ورتب الهجوم على مقار جهاز أمن الدولة خلال الأيام القليلة الماضية، ومن الذى أمر بإتلاف وإحراق ملفات الجهاز فى أهم المدن المصرية.
(1)
سيظل السؤال «من» معلقا فى الفضاء بغير إجابة حاسمة، ومن ثم سيظل باب الاجتهاد مفتوحا فى صدد الجهات التى حرضت وتلك التى نفذت وصاحبة المصلحة فى هذا وذاك. لكن بوسعنا أن نعرف الإجابة على السؤال «لماذا»؟. ذلك أن أحدا لا يشك لحظة فى أن الأطراف التى سعت إلى ترويع الناس فى مصر بعد الثورة، لا تزال نشطة ولم يهدأ لها بال. وأن هذه الأطراف ذاتها هى التى أمرت بالتخلص من وثائق جهاز أمن الدولة، التى تبين أنها ترصد كل شىء فى البلد، بما فى ذلك ما يحدث فى غرف نوم رجال السلطة والشخصيات العامة، إلى جانب رصد اتصالاتهم وأنشطتهم فى مختلف المجالات السياسية والثقافية والرياضية. وليس ذلك غريبا من وجهة نظر مسئولى الجهاز، لأنه إذا كان هو الحاكم الحقيقى لمصر، فربما كان منطقيا أن يكون ممسكا بكل خيوط المشهد.
ليس ذلك فحسب، ولكن هناك قرائن تدل على أن الرئيس السابق كان يحب النميمة ويحرص على أن يعرف الأسرار العامة والخاصة لكل المحيطين به ولغيرهم من الشخصيات العامة.
وقد سمعت من وزير داخلية سابق لا يزال على قيد الحياة أن وزارة الداخلية كانت تتنصت على كل هؤلاء طول الوقت. وأن مجموعة من الخبراء كانت تتولى تفريغ أشرطة التسجيل للحصول على أهم المعلومات التى تضمنتها، وأن تقريرا بخلاصة تلك المعلومات كان يعد كل صباح، وتطبع من ثلاث نسخ واحدة للرئيس والثانية للهانم والثالثة للابن الوريث. ولم أكن وحدى الذى سمع هذه القصة، ولكن كان يجلس معنا على طاولة العشاء فى إحدى المناسبات خمسة أشخاص لا يزالون بدورهم أحياء. ومما ذكره الوزير الأسبق أنه حين رفض القيام بهذه المهمة، فإن رفضه أخذ عليه، وكان من بين الأسباب التى أدت إلى إخراجه من المنصب.
(2)
عملية إتلاف وثائق وتقارير أمن الدولة تمت فى ظل ظروف مريبة. فقد حدثت أثناء استمرار الغياب الأمنى ــ وخلال الأربع وعشرين ساعة التى أعقبت خروج وزارة السيد أحمد شفيق ــ وقبل يوم من محاكمة السيد حبيب العادلى وزير الداخلية السابق ــ وتمت كلها فى وقت واحد وبأسلوب يكاد يكون واحدا. الأمر الذى يثير سؤالا كبيرا هو: إذا كانت تلك الوثائق تتعلق حقا بأمن الدولة، فلماذا تمت إبادتها؟
الإجابة التى تخطر على بال أى مراقب هى أن الوثائق، التى حاولوا إبادتها تدين جهاز أمن الدولة وتكشف ممارساته البشعة وجرائمة بحق المجتمع عبر العقود الأخيرة على الأقل، هى شهادات إدانة للجهاز وللنظام تفضح أسراره وتقدم أدلة تعريته. ليس ذلك فحسب وإنما تبين تلك الوثائق مدى تغلغل عملاء، وأصابع ذلك الجهاز الأخطبوطى فى نسيج المجتمع المصرى. وقد رأت قيادة الجهاز أن التخلص من تلك الوثائق ضرورى لطمس معالم الجريمة التى ارتكبوها.
فى هذا الصدد استوقفتنى وثيقتان ضمن ما نجا من الحريق، الأولى موجهة إلى مفتشى المباحث فى جميع المحافظات، وموقعة باسم اللواء حسن عبدالرحمن رئيس جهاز أمن الدولة ومساعد أول وزير الداخلية نصها كما يلى: نظرا لما تشهده البلاد فى الوقت الراهن من حراك سياسى وتصاعد الوقفات الاحتجاجية واستغلال بعض العناصر المناهضة لتلك الوقفات، واحتمال مهاجمة بعض المقرات الشرطية، ومنها بعض الفروع والمكاتب فقد ووفق على ما يلى:
ــ إلغاء جميع أرشيفات المكاتب الفرعية التابعة للإدارات والفروع الجغرافية والتخلص من محتوياتها عن طريق الفرم وليس الحرق.. مع نقل المعلومات غير المتوافرة بالإدارة أو الفرع إلى أرشيف الإدارة أو الفرع.
ــ تسيير أمور العمل بالمكاتب فى حالة طلب الكشف عن أسماء من خلال الاتصال بالإدارة أو الفرع بمعرفة أحد السادة الضباط لتحقيق المطلوب.
ــ إلغاء أرشيف «سرى للغاية» بأرشيف الإدارات والفروع الجغرافية أو إعدام محتوياته عن طريق الفرم.. والتنسيق مع أرشيف سرى للغاية بالجهاز فى حالة طلب معلومات.
ــ قصر تحرير مكاتبات «سرى للغاية» مستقبلا على الأصل فقط دون الاحتفاظ بصور.
برجاء تنفيذ ذلك تحت إشراف سيادتكم.. وتفضلوا بقبول فائق الاحترام. «التاريخ فى شهر فبراير الماضى ولكن اليوم ليس واضحا فى الصورة المستنسخة».
الوثيقة الثانية تتضمن مذكرة قدمت إلى رئيس أمن الدولة خلال شهر فبراير أيضا (اليوم ليس واضحا)، تعلقت بالتعامل مع الدعوات التى أطلقت لحل الجهاز بعدما ساءت سمعته، وأشارت إلى أن أصواتا لها توجهاتها الخاصة سعت إلى النيل من الجهاز «دون اعتبار لمقتضيات المصلحة القومية العليا والأمن القومى المصرى».
أضافت المذكرة أن هناك رؤية يمكن طرحها فى إطار السعى من جانب الدولة لاستيعاب المطالب «الإثارية» المطروحة عبر أبواق الدعاية الإعلامية، سواء المناهضة أو ذات الأغراض، التى توظف معالجاتها لطرح مطالب المتظاهرين، وتتبلور هذه الرؤية فيما يلى:
ــ الإعلان عن حل مباحث مباحث أمن الدولة بشكل صورى وإعلامى، والإعلان عن أن ذلك يتم فى إطار تغييره. وكذلك السعى إلى امتصاص الدعاوى الإثارية والمناهضة فى هذا الشأن.
ــ تغيير مسمى الجهاز إلى جهاز الأمن الداخلى ــ جهاز المعلومات الأمنية ــ جهاز الأمن الوطنى.. الخ «بقية الوثيقة مفقود، ولكن الفكرة فيها واضحة. وهى تدعو إلى إحداث تغيير فى اسم الجهاز فقط مع الإبقاء على وظيفه كما هى».
(3)
هل بوسعنا أن نقول إن جهاز أمن الدولة الذى سبقت الإشارة إلى أنه كان واعيا باحتمال تعرض مقرات الشرطة للاقتحام من جانب المتظاهرين قد تخلص فعلا من الوثائق الأخطر، وأنه قصد أن يترك بقية الوثائق لكى تتسرب بصورة أو أخرى، ومن ثم تصبح عرضه للتداول بما يفتح الباب لاحتمالات البلبلة وإثارة الفتنة. علما بأن الوثائق المتروكة خلت من أى إشارة إلى أركان النظام السابق، الذين كان أغلبهم ضالعين فى مختلف صور الفساد.
يؤيد هذه الفكرة أن بعضا من تلك الوثائق تتحدث عن العلاقات الشخصية والأمور شديدة الخصوصية. ومضمونها يصلح مادة للنميمة والثرثرة ولا علاقة له بالشأن العام أو بالسياسة.
من الوثائق التى تثير البلبلة وتبعث على الحيرة واحدة صدرت عن مكتب وزير الداخلية منسوبة إلى «التنظيم السياسى السرى»، وتحدثت عن تكليف القيادة رقم 77 بتاريخ 2/12/2010 الخاص ببحث إمكانية «تكتيف الأقباط وإخماد احتجاجاتهم المتتالية، وتهدئة نبرة البابا شنودة فى خطابه مع النظام»، واقترحت الوثيقة أن يتم تنفيذ عمل تخريبى ضد إحدى الكنائس الكبرى بالقاهرة بمعرفتنا، ثم تقوم بإلصاق تلك التهمة أثناء التحقيقات فى أحد القيادات الدينية المسيحية التابعة للكنيسة عن طريق جعل جميع تحريات المعمل الجنائى والنيابة العامة تتجه نحو القيادة القبطية.
ثم نطلع البابا شنودة على نتيجة التحقيقات السرية. ونفاوضه بين إخماد الاحتجاجات القبطية المتتالية على أتفه الأسباب وتخفيف حدة نبرة حديثه على القيادة السياسية، وعدم تحريض رعاياه الأقباط للتظاهر بالاحتجاج، ودفعه نحو تهدئة الأقباط للتأقلم مع النظام العام بالدولة. وإما إعلان قيام القيادة الكنسية بتدبير الحادث وإظهار الأدلة على الملأ أمام الرأى العام الداخلى والخارجى لتنقلب جميعها على الكنيسة، وذكرت الوثيقة أنه إزاء ذلك «من المؤكد أن البابا شنودة سوف يمتثل للتهديد، وسوف يتحول موقفه إلى النقيض، بما يضمن تهدئة الأوضاع تماما».
ما يثير الدهشة أن تلك لم تكن فكرة مجنونة خطرت للمسئولين فى مكتب الوزير ممن ينتسبون إلى «التنظيم السياسى السرى»، وهو جهة لم نسمع بها من قبل، ولكنها نفذت بالفعل فى كنيسة «القديسين» بالإسكندرية، حيث حدث تفجير كبير أثناء خروج المصلين فى احتفالهم فى الكنيسة برأس السنة الميلادية الجديدة، مما أدى إلى مقتل 21 شخصا. وليس ذلك مجرد استنتاج، ولكن إحدى الوثائق التى عثر عليها فضحت السر العجيب. تاريخ الوثيقة 11/12/2010. وهى منسوبة إلى مكتب الوزير، وعنوانها، خطوات تنفيذ التكليف 77 بتاريخ 2/12 تحت إشراف الرائد فتحى عبدالواحد، وورد فى النص ما يلى:
تنفيذا للتكليف رقم 77 بتاريخ 2/12/2010 اجتمعنا مساء أمس الساعة 20.20 لمدة ساعة ونصف الساعة بكل من المدعو محمد عبدالهادى والمدعو أحمد خالد والمدعو عبدالرحمن على، واتفقنا على جميع بنود الخطة الموضوعة لتنفيذ المهمة. كما اتفقنا على أن يتم تسلم المتفجرات المتفق بشأنها جاهزة وفى انتظار ساعة الصفر. وقد وجهنا المدعو أحمد خالد وعبدالرحمن على بعدم مغادرة محل الإقامة المحدد لدينا إلا بإخطار مسبق لنا. كما وجهنا المدعو محمد عبدالهادى بإخطارنا بجميع تحركاته وما ينوى القيام به من أعمال خلال الفترة المقبلة لحين تنفيذ العملية. أما مسرح العملية فقد وجهنا عناصر الشرطة السرية المكلفة بمراقبته وإعداد تقارير يومية وموافاتنا بها يوميا!
(4)
مساء يوم الخميس الماضى ظهر ضابط شرطة سابق اشتغل بالصحافة على شاشة إحدى القنوات الخاصة، وظل يندد بالفوضى ضاربة الأطناب فى البلاد، واتهم الإخوان المسلمون بأنهم ضالعون فى تلك الفوضى. كما تعددت الكتابات التى لوحت بفزاعة الإخوان، وحذرت من إجراء الانتخابات بعد ستة أشهر سيوقع البلد بين أيديهم، لأن المنافسة ستكون بينهم وبين مرشحى الحزب الوطنى. وأثارت كتابات أخرى مسألة الفوضى الحاصلة فى البلد. والأضرار الاقتصادية التى ترتبت عليها، كما أثارت قضية انتشار الجرائم فى الأقاليم (غياب الشرطة سبب لها)، وقرأنا لمن قال إن الثورة أصبحت بحاجة إلى ثورة أخرى، ولمن قال إنه أصبح يكره الثورة لأنها فتحت الباب لشرور لا يعلم مداها إلا الله.
كأن المطلوب أن يندم الشعب المصرى على الثورة التى أطلقها وأيدها. وأن يتحسر على حكم مبارك ونظامه. بسبب من ذلك فإننى أشك كثيرا فى ملابسات اقتحام مقار أمن الدولة وفى براءة، الذين يثيرون مخاوف الناس من المرحلة المقبلة، ولا أتردد فى القول بأنهم يروجون له يقدمون أكبر خدمة للثورة المضادة، إن لم يكونوا جزءا منها، علموا بذلك أم لم يعلموا.
No comments:
Post a Comment