عبدالحليم قنديل يكتب:
أفضل طرق التعبير، وفي لحظة ثورة بالذات، أن تقول الحقيقة كاملة، أو ألا تقول شيئا علي الإطلاق.
وأفضل طرق السؤال، أن نعلق الجرس في رقبة صاحبه، لا أن نلف وندور، وننطق نصف الحروف، ونترك النصف الآخر إلي حين ميسرة،ونضيع في صحاري الإيهام، ونسبح في بحار التيه، فلا نحن نغرق، ولا نحن نطفو، ولا نحن نتعلق برجاء النجاة.
فلا يصح -مثلا- أن نوجه سؤال التأخير في محاكمة مبارك، أو التعطيل، أو التباطؤ، أو السهو بالعمد، وتحصين الرئيس المخلوع إلي الآن، وقد زالت حصانته، لايصح أن نوجه السؤال في أصوله، ولا في فروعه، ولا في الاستفهام الحائر بخصوصه، لايصح- في مقام اللحظة- أن نوجه السؤال للنائب العام عبدالمجيد محمود، وأيا كان الرأي في حدود نزاهته، فالسؤال أكبر من الرجل، والرجل نفسه عينه مبارك، صحيح أن مهمته قضائية، وأنه وكيل الدعوي العمومية عن المجتمع، لكن الشخص يبدو أصغر من الصفة، وبالذات حين يتعلق الأمر بمحاكمة مبارك، أو حتي بمحاكمة عائلته، والنائب العام- بجلالته- لم يتحرك للتحقيق مع وزير ولا مع خفير، رغم كثرة الوزراء الذين قدمت ضدهم بلاغات للنائب العام، ودون أن يهتز له رمش، أو يبدي نصف اهتمام، ولو بتقطيبة جبين، أو بدعوة المبلغين إلي التحقيق لسؤالهم في ادعاءاتهم، فقط كان نصيب البلاغات واحدا، هو السكني في أقرب درج، أو النهاية في سلال المهملات، ولم يتغير سلوك النائب العام، لم يتغير نهج التواطؤ العام إلا بعد أن انتهت رئاسة مبارك، وظهر الضوء الأخضر علي باب مكتب عبدالمجيد محمود، وتوالت التحقيقات مع لصوص كبار، ومع جلالة وزير الداخلية الدموي حبيب العادلي، ولكن دون مس آخرين شملتهم الحماية إلي الآن، ومن ماركة فتحي سرور وصفوت الشريف وزكريا عزمي، أي دون المس بالدائرة الأقرب إلي مكتب خدمات الرئيس المخلوع، ودون الاقتراب طبعا من بدء التحقيق مع مبارك وعائلته، ومع الاكتفاء بتنفيذ أوامر «المجلس العسكري» بمنع أفراد العائلة الفاسدة من السفر، والتحفظ علي أموالها وحساباتها في الداخل، وتكليف وزارة الخارجية بالتحري عن المليارات المنزوحة للخارج.
والمحصلة أن لاشئ يتحرك، أو قل أنه يمضي ببطء السلحفاة، فأوامر النائب العام، وهي النسخة القضائية من أوامر المجلس العسكري، هذه الأوامر بدت في حالة تلكؤ، وكأنها لم تصدر من أصله، مضت إلي المحكمة المختصة، والتي عقدت جلستين، لافرق ظاهرا في جلسة عن الأخري، لكنها مجرد إضاعة للوقت،وانتهت المحكمة إلي تأييد أوامر التحفظ والمنع من السفر، وجري الإعلان عن بدء التحقيق ثم صدر نفي غامض عن متحدث غامض، وطويت الصفحة حتي إشعار لايجئ.
إذن، فلا النائب العام ممن يصح سؤاله، ولا مسئول إدارة الكسب غير المشروع، ولا أي شخص آخر غير جنرالات المجلس العسكري، وغير المشير محمد حسين طنطاوي رئيس المجلس العسكري، والرجل لايتحدث في الموضوع ولا في أي موضوع آخر،ويفضل التزام الصمت، وابلاغنا بآرائه عبر قرارات المجلس العسكري، ونحن نحترم صمت المشير، وهو الرجل الذي ظل وزيرا للدفاع عبر عشرين سنة خلت، فهو أطول وزراء دفاع مصر عمرا في منصبه، تماما كما كان مبارك الأطول عمرا في مقام الرئاسة، وجمعته علاقة عمل متصل مع مبارك، بدت فيها دواعي الثقة ظاهرة، وجمعتهما آلاف الصور، بدا فيها المشير صامتا مشدود القامة، معتزا بسمته العسكرية، وقائدا لمهام عسكرية مما لايصح أن نتدخل فيه، لكن الأقدار شاءت للمشير أن يكون موضع سؤال، فهو يجمع إلي العمل العسكري عملا سياسيا مستجدا، وهو في سدة الرئاسة الواقعية الآن وله صلاحية إصدارمراسيم لها قوة القانون، ويطيعه النائب العام كما كان يطيع مبارك، ولم يصدر المشير أمره بعد بصدد محاكمة رئيسه السابق، وبعد أن تكشفت مخازي وسرقات وخيانات، كنا نتحدث عنها في ظل حكم مبارك نفسه، ويتحدث عنها الجميع الآن، وبعد أن أصبح الكلام بالمجان، وبعد أن أصبح الخائفون أحرارا.. ودون لف ولا دوران، ولا حشر للحروف في الحلوق، فإننا نسأل سيادة المشير عن التأخير والمماطلة في محاكمة مبارك، ولعل المانع خيرا، ولو أنه لايبدو كذلك، فالتأخير يعني التقصير، ويعني تضييع ثروة الشعب المصري المنهوبة، والتي سرقها مبارك وعائلته، وظهرت بشأنها مئات الوثائق، وبلغت في جملتها ما قد يصل إلي 70 مليار دولار، أي ماقد يصل إلي 420 مليار جنيه مصري، وقد تطوعت جماعة من كبار القانونيين المصريين، وألفوا فيما بينهم لجنة تحقيق تهدف لاسترداد أموال مصر، والأموال التي نهبتها عائلة مبارك الفاسدة بالذات، وتلقت اللجنة ركاما من الوثائق، بعضها مشكوك في أمره،وبعضها تحت التدقيق، بينها شهادة صحيحة صدرت عن «كالودنيان بنك جروب» وهو بنك بريطاني، تقول الشهادة إن محمد حسني مبارك شريك في محفظة استثمارية قدرها 620 مليار دولار، تديرها مجموعة «إيكوتريد» السويسرية، وليس معروفا - بالدقة- حجم شراكة مبارك، ولاتزال المخاطبات جارية للتدقيق، وفك الالتباسات، وهذه الوثيقة مجرد مثال، لكن الوثيقة الأدق والأخطر صدرت علي صورة شهادة صحيحة من بنك باركليز البريطاني الشهير، وتفجر مفاجأة من عيار ثقيل، وفحواها أن محمد حسني مبارك يملك سندات خزانة بقيمة 7.5 مليار دولار مودعة في بنك باركليز، أي أنه يملك ما يقارب 30 مليار جنيه في بنك واحد لاغير!!.
نعود إلي القصة الأصلية، نعود إلي سيادة المشير ومجلسه العسكري، والذي يحكم مصر الآن، ونسأل المشير: متي تبدأ محاكمة مبارك؟، هذا هو السؤال الجوهري في الشارع المصري الآن، يثير البلبلة، ويمتص الحماس لدور المجلس العسكري، ويأخذ من حساب التأييد لسلطة المشير،ويثير اتهامات، قد يكون بعضها من حسن الفطن، أو لايكون، والمطلوب: إجلاء الحقيقة، والجواب علي سؤال: هل يحاكم مبارك أم لا؟، إذا كنتم- ياسيادة المشير- لاتريدون محاكمته، فلماذا صدرت قرارات المنع من السفر، والتحفظ علي حسابات البنوك؟!
وإذا كنتم- ياسيادة المشير- تريدون محاكمته، فلماذا تتركونه هاربا في منتجع شرم الشيخ؟، ولماذا تراخت الإجراءات؟، ولماذا فوائض وفسح الوقت الضائع؟، والتي أتاحت له ولعائلته الفاسدة وقتا إضافيا لتهريب الأموال، وإلي الإمارات والسعودية بالذات، وعبر مليارديره الهارب حسين سالم، وعبر السلاسل من شركات «الأوف شور»، وعبر مئات من عملاء عصابة مبارك في الداخل المصري، لاتقترب منهم سلطات التحقيق، وكأنهم في حصانة وحضانة الحرم العسكري.
والمطلوب بدقة - ياسيادة المشير- أن تنهي اللغط، وأن تأمر بمحاكمة مبارك الآن وفورا، وأن تصدر قرارا فوريا بنقله من شرم الشيخ بالقرب من حضن إسرائيل، وأن يوضع- مع عائلته الفاسدة- تحت الإقامة الجبرية في القاهرة، وأن يبدأ التحقيق فالمحاكمة العادلة، وعلي أن تكون المحاكمة علنية ومذاعة بتفاصيلها علي الهواء، فنحن بصدد رجل حكم مصر بالغصب علي مدي ثلاثين سنة، واستذل أهلها،وسرق ثرواتها، وخدم إسرائيل كأنها في مقام الست أمه، ووضع مصر وديعة في حساب الأمريكيين وداس مصالحنا الوطنية بحذاء الأمريكيين والإسرائيليين، وارتكب أبشع جرائم الخيانة العظمي، ويستحق الإعدام ألف مرة، فلم يحكم مصر أبداً كرئيس ولا كملك، بل كزعيم لتشكيل عصابي، وكبلطجي دهس كرامة المصريين بالقهر والفقر والمرض والقتل الجماعي، وكلص محترف شفط ثروة بلد بأكمله وسرق الكحل من العين.
المطلوب- ياسيادة المشير- قصاصا عادلا وعاجلا، والمحاكمة الفورية لمبارك وعائلته، وهذه مسئوليتك أنت مع مجلسك العسكري، وقبل أن تكون مسئولية أي شخص آخر، هذه مسئوليتك التي تحاسب عنها أمام الله وأمام الناس،والتباطؤ فيها يزيد الريب، إنه التباطؤ الذي يوحي بالتواطؤ.
فزورة زكريا عزمي
حالة زكريا عزمي غريبة جدا، وأقرب لفزورة سخيفة.
نفهم أنه كان قريبا جدا من الرئيس المخلوع، كان رئيس ديوانه، وكاتم أسراره، لكن عزمي لم يذهب بذهاب مبارك، وظل رئيسا لديوان بلا رئيس!!.
وضع عزمي مثير للسخرية، ومثير للقلق أيضا، فقد كان ظلا لمبارك، فهل ذهب مبارك؟، وأبقي لنا ظله الكئيب، أم أنه بقي بأمر المشير طنطاوي كما ذكرت صحف، وبمهام حصر مستندات ومقتنيات 52 قصرا رئاسيا، وكأننا نعطي القط مفتاح الكرار«!».
عزمي صدر له قانون خاص سنة 1986، يبقيه في منصبه مدي الحياة، وهذه واحدة من أعجب جرائم الرئيس المخلوع، فهل أخذ المشير في حسابه قانون مبارك، وكأننا بصدد أمر إلهي صدر عن رئيس كان لصا محترفا.
بقاء زكريا عزمي- ياسيادة المشير- جريمة كاملة الأوصاف، وإهانة لكرامة الشعب المصري وشهداء ثورته، ومكان عزمي الطبيعي ليس في الديوان، بل في سجن طرة.
No comments:
Post a Comment