طبق عاشوراء من يد جارتنا
ألا تشتاقون أن تعود السكينة لمجتمعاتنا؟
د. نعمت عوض الله
بعض المعانى البسيطة يقف المرء عاجزا أمام تعريفها، وقد يضع لها علماء النفس والاجتماع نقاطا وبنودا تعريفية وتوضيحية.. ولكن هل تصل هذه المعانى إلى القلوب؟.. هل تجعلك ترى "السكينة الاجتماعية" وتشعر بها وتتذوقها؟.
هل ترى رجلا فى أواسط العمر يستيقظ ليصلى الفجر على صوت زوجته وهى تحاول إيقاظ الأبناء والبنات الذين يتململون فى أسرتهم بخبث المراهقة والطفولة؟ ثم وهو ينهض مرة أخرى ذاهبا لعمله؟.
هل ترى المائدة وعليها إفطار بسيط ولكنه دافئ؟
هل ترى ابتسامة الجار الذى لقيته على السلم؟
هل تسمع كلمة: "يا صباح الهنا" من فم بائعة الخبز على ناصية الشارع؟
هل ترى الحافلة تتوقف بهدوء فى موعدها ومكانها وابتسامة السائق المرحبة وهو يقول: "على مهلك يابيه.. خلى بالك"؟.
ثم المكتب، المصنع، المدرسة، المستشفى، المؤسسة، البنك، الجامعة، المحل أو الورشة.. كل مكان.. كل موقع تعلوه همة ونشاط.. نظام صارم وابتسامة عريضة.. وكل إنسان يفسح لأخيه موضعا، يحتوى مشكلته، يساعده فى حلها.. منظومة إتقان متكاملة فى كل موقع.
وتعال نستكمل الصورة مع صاحبنا عائدا من عمله قبل غروب الشمس بقليل.. مرهقا، متعبا، يشتاق إلى داره يغسل فيها كد النهار، وزوجته الحنون وأبنائهم قرة العين، وكوب الشاى بالنعناع الأخضر بعد الحمام الدافئ، والغذاء الشهى فى الشرفة الصغيرة التى يمتد الشارع أمامها، وتلمح قرص الشمس يغيب بين أغصان شجيرات خضراء تلف المبانى تداريها وتحميها.
حياتنا نرسمها بأيدينا
أليست هذه سكينة اجتماعية؟..
أين ذهبت؟.. لماذا اختفت؟.. لماذا نصحو على شجار أو على أصوات المذياع العالية؟ لماذا لم تعد الأمهات تهتم بإيقاظ أبنائها مبكرين؟ لماذا لا تستيقظ حتى لتعتنى بزوجها سواء رافقته إلى عملها أو ظلت فى بيتها ترعى شئونه.
لماذا يقابلنا الجار على السلم بصندوق قمامته ومهملاته الملقاة تجتمع حولها القطط فى وليمة يومية حافلة؟ لماذا لا تتوقف الحافلات إلا بعيدا عن محطاتها ويسعد سائقها بعذاب الناس وهى تجرى للحاق به؟ لماذا لا نجد مكانا نضع فيه السيارة ولو وجدنا قفز إلينا عشرات الأشخاص ليمدوا أياديهم؟ لماذا ندخل إلى مواقع العمل بروح عدائية أو برغبة فى التهريج أو اللامبالاة؟ لماذا لا تهزنا دموع الآخرين وهم غالبا كاذبون؟.
لماذا يعود الرجل فلا يجد فى بيته أحدا، ويجد طعاما باردا، وزوجةً مع الجيران، وابنةً على التليفون، وولدا مع أصدقائه فى النادى؟.. أين ذهبت "لمة الطعام" الحنون وحكاوى الأسرة كلها لبعضها البعض؟ لماذا يهرب الرجال إلى المقاهى والنوادى والأصدقاء تاركين نساء البيت فريسة للصديقات والنادى والغيبة والنميمة؟.
كلنا الرجل.. كلنا الجار.. وسائق الأتوبيس، والموظف، وصديق السوء، كلنا هذا الرجل وليس لأحد منا فضل على الآخر.
ألا تحبون أن تعود صورة حياتنا الأولى؟.. ألا تودون أن تعود إلى مجتمعاتنا السكينة؟ ألا تشتاقون إلى بيت العائلة، ولمة الأهل، وضحكاتنا جميعا على خطوات الرضيع المترنحة، وكلمات الصغير الأولى المتلعثمة، وحكاوى ابن العم عن عمله الجديد؟ وتجهيزات الخالة لخطوبة ابنتها؟ وكل واحد فينا يبحث عما سيرتديه؟.
ألا تشتاقون إلى طبق الفطائر ترسله الجارة فى صحن قد أرسلت فيه أمى "العاشورا"؟ وصديق يتلقى مكالماتك فى بيته إذا تعطل هاتفك؟ وولد يعود مبكرا فتلقاه أم تقطن فى البيت المقابل تطعمه وتحنو عليه ويلعب مع صغارها حتى تعود أمه؟.
مجتمع نجد فيه كلنا عملا، وأزواجا، وبيوتا نسكنها، وأصدقاء مخلصين، وطعاما سهل الهضم، وشرابا بدون غش، وسعادة وراحة وسكينة اجتماعية.
No comments:
Post a Comment