أزمة المسيحيين وأزمة الدولة في مصر
نبيل الفولي
تزايدت أزمات الجماعات المسيحية العربية في العقود الأخيرة بصورة مقلقة، من السودان إلى العراق إلى مصر، وبدا أنها تحمل عناصر خطورة بالغة على أوضاع اجتماعية تكرست في هذه البلاد منذ قرون طويلة، وتمهِّد لأوضاع سياسية تصب أكثر في اتجاه التفكك والتشرذم، وأحوال اجتماعية بالغة الحساسية لا توفر للتفاعل الاجتماعي داخل الوطن الواحد إلا ما يكدّره ويسممه.
وفي هذه السطور سنحاول -من خلال فهم أزمة المجتمع والدولة في مصر، كنموذج للدولة والمجتمع في العالم العربي- أن نفهم جذور أزمات هذه الأقليات التي تتفق وتختلف في طبيعة أزماتها، لكن أسباب هذه الأزمات تبدو واحدة تقريبا.
طبائع اجتماعية ونفسيةلا اختلاف على الجذور العميقة للوجود المسيحي في البلاد العربية، والتي هي قديمة قدم المسيحية نفسها، ولا يماري أحد –وفقا لهذا وغيره- في حقهم في البقاء في أوطانهم محفوظي الحقوق أحرارا.
ولا يماري مطَّلع أيضا في أن تنوع مواقف الأقليات المسيحية من أوطانها العربية طوال تاريخها، لا يختلف كثيرا عن تنوع مواقف أبناء الأغلبية المسلمة أنفسهم، فإذا كان بعض المسيحيين قد قاتل مع الغزاة والمستعمرين ضد المسلمين في مراحل زمنية مختلفة، فقد فعل ذلك بعض أبناء المسلمين أيضا.
إن كتب التاريخ تخبرنا بأن هجمات الصليبيين والتتار على بلاد المسلمين كانت فرصة لتشفي فريق من "اليهود والنصارى" وانتقامهم من مواطنيهم المسلمين، وهي تحكي أيضا أن سلطانا من أبناء البيت الأيوبي –أحد أعظم البيوت المسلمة جهادا ضد الغزو الخارجي- قاتل بجيشه إلى جانب التتار في معركة عين جالوت ضد قوات مصر والشام المسلمة، وهو الملك السعيد حسن بن العزيز عثمان بن العادل أبي بكر بن أيوب؛ لمجرد أن هولاكو منحه ولاية سُلبَت منه.
ويحكي التاريخ الأقرب أن المعلم يعقوب حنا والمعلم جرجس الجوهري قد تعاونا مع الحملة الفرنسية على مصر والشام ضد أبناء وطنهما، لكن هكذا فعل أيضا مراد بك وعثمان عسكر وحسين الكاشف وغيرهم، فتحالفوا مع الغزاة أنفسهم.
وحين حطت عساكر الإنجليز رحالها في مصر وغيرها من بلادنا، جلس على موائدها من طمع في لقمة ينالها منها، سواء أكان مسلما أم مسيحيا أم يهوديا، وكان من هؤلاء بطرس غالي ناروز الذي حكم على أبناء وطنه المظلومين في قضية دنشواي بالإعدام، ومحمد إبراهيم الهلباوي عميل الاحتلال الشهير الذي كان يحمل درجة "مجاهد سابق"!، وقبلهما الضابط علي يوسف وغيره ممن خانوا أحمد عرابي لحساب الغزاة الإنجليز في معركة "التل الكبير" التي أدت إلى احتلال مصر.
إذن، لا تبدو المسألة ذات علاقة بالدين من هذه الوجهة، فلا هذا الدين ولا ذاك يدعو إلى الخيانة، أو بيع الوطن في سوق العمالة، وإنما هو الخوف والطمع يحكمان على الإنسان فيلقي بنفسه في أيّ أحضان صادفته!.
ولو فرضنا جدلا أنه قد ثبت تاريخيا أن أقلية دينية أو عرقية قد انفردت –دون جميع أبناء وطنها– بانتماء بعض الخائنين إليها، فلا يقوم هذا مسوِّغا لمحاسبة الأقلية كلها، خاصة إذا صار هذا الحادث تاريخا مرت عليه أجيال وقرون.
وفي هذه الحالة يصبح التاريخ لا سببا في تكدير صفو العلاقة بين التجمعات العرقية والدينية التي تقيم في بلد واحد، بل يمثل صفحة لإدراك أسباب الخلل، والتفريق بين ما هو اختلاف ضروري بين طبائع البشر، واشتمال أي مجتمع إنساني على عناصر مشوَّشة نفسيا وملوثة فكريا، وبين الخطط المدبَّرة والمبيتة بدوافع دينية أو عرقية لإغراق الوطن في الأزمات والقلاقل.
والحقيقة أننا حين نتخذ التاريخ مدخلا جامدا لفهم مسألة الأقليات، زاعمين أن الأبناء هم أنفسهم كالآباء، وأن الطبائع واحدة، وأن الأبناء لديهم استعداد للخيانة -كما فعل الآباء– نقع في خطأين:
الأول: أننا نسحب حكم الخيانة على كل المنتمين إلى الأقلية قدامى ومعاصرين، مع أن حقائق التاريخ، وطبيعة الأمور في علاقة الأقلية مع الأكثرية المتسامحة –كما هو حال المسلمين العامة في تاريخهم مع الأقليات التي عايشتهم– تنفي ذلك، وتؤكد –على العكس منه– أن الخيانة لم تكن هي الأصل في سلوك هذه الأقليات، بل هي الشاذ النادر.
الخطأ الثاني: أننا نحوّل التاريخ إلى سكين ليذبح الواقع، بدلا من أن يقوم بوظيفته الإيجابية في زيادة اللُّحمة وتقوية الأواصر التي تضمن السلامة للجميع.
إذن، لا يمكننا أن نفهم واقع الأقلية المسيحية في مصر وغيرها من البلاد العربية من خلال أحكام منقوصة ومستلة بعشوائية من حوادث جزئية مرت في طول التاريخ وعرضه، لا يفسرها انتماء إلى عرق أو دين، ولكن تفسرها طبائع بشرية عامة، وأحوال اجتماعية لا يختلف فيها مجتمع عن آخر كثيرا.
مشكلة الدولة العربية الحديثةفماذا يمكن أن يفسر هذه الأزمات؟ إنه الإطار العام الذي يضم في داخله كل أزماتنا، والفشل الأكبر الذي يفسر كل حالات الفشل الأخرى، وهو فشل مشروع الدولة العربية الحديثة عموما في تطوير أوضاع مجتمعاتها، وهذا الفشل مسؤولية جميع طوائف الأمة وفئاتها.
لقد أمّل المواطن المصري والعربي كثيرا بعد رحيل عساكر الاستعمار عن ترابه الوطني، ووضع الأمانة في أيدي كوادر وطنية من إخوانه وأبنائه. لكن -وفي سرعة خاطفة- سُرقت البسمة من فوق شفاه هذا المواطن، وتراجعت الحريات في أكثر الدول العربية إلى مستويات قياسية، وفشلت المشروعات الاقتصادية الكبرى والصغرى في تحقيق أهدافها العميقة، وبدا أن سياسة وطنية وساسة وطنيين حلوا بديلا عن العساكر الأجنبية دون أن يكون لذلك التغيير تأثيره الإيجابي مثلما كان متوقعا.
وحينما ننظر في مشروع الدولة الحديثة بمصر من ناحية أزمة الأقليات تحديدا، سنجد أن البعد الديني لم يكن حاضرا في هذا المشروع باعتباره عنصرا مفرقا بين ذوي الأديان المختلفة في الوطن الواحد؛ أي لم يُنظَر في مشروع الدولة إلى الدين -من أي وجه- على أنه عامل تمييز بين مواطن وآخر. والكلام هنا عن الأسس العامة لمشروع الدولة، وأما التشريعات الجزئية، فقد تكون فيها بعض وجوه التمييز الضئيلة التي مُنِحَت للأغلبية.
إلا أن هذا الغياب المحدد للدين لم يقدر على حماية الدولة العربية من الاحتقان الطائفي الذي بلغ حد الحروب الضارية في لبنان والسودان، وترك الأبواب في مصر مشرعة على أزمات صغيرة نسبيا لكنها متكررة، مما أنهك أساس الآصرة الاجتماعية الضامنة لسلامة أي مجتمع متعدد، وهي الثقة المتبادلة، والتي يتولد عنها أن يعمل الجميع في اتجاه واحد تحت مشروع الدولة التي تضمهم.
لم يخل مشروع الدولة الحديثة في مصر منذ بدايته من الارتجال، وعدم تحديد أصول التوافق التاريخي والقيمي بين المكونات الاجتماعية للوطن الواحد؛ للانطلاق منها إلى قواعد وتشريعات تحمي هذا التوافق، ولا تذيب الفروق –كما سعت الدولة الشيوعية في عنفوانها– بل تعمد إلى زيادة الاشتراك في الأهداف، وفي خدمة المشروع الوطني عموما؛ حتى لا تؤدي الفروق دورها السلبي إذا انفردت.
بل إن نظرة أعم من هذه لتوقفنا على ما هو أخطر في التأثير على بني المجتمعات العربية التعددية، وهو أن فشل مشروع الدولة العربية ومراوحته أخيرا في خانة بقاء الحال على ما هي عليه، قد أورث الشعوب العربية نوعا من الإحباط تُفرَّغ معه طاقة المجتمع بمكوناته، لا في دفع القاطرة إلى الأمام، ولكن في تعويقها، وتنشيط مفاصل الاحتكاك الساخن بين مكونات الجماعة الوطنية المتعددة دينا أو عرقا أو انتماءً سياسيا.
خطأ الأقليةأدت تنحية الجماهير في مصر والعالم العربي –أقليةً وأغلبيةً- عن مواضع القرار والتأثير في مشروع الدولة الوطنية طوال عقود مديدة، إلى سلبية هذه الجماهير وضعفها، وأثر ذلك في الأقليات أكثر من تأثيره في الأغلبيات، فكانت الأولى أكثر انسحابا وتقوقعا على نفسها، ولكن فاتها أن الغبن ليس خاصا بها، بل هو مشكلة وطن برمته، وأن الحكومات لم تعد تعمل لحساب أكثرية ولا أقلية، ولكن لحسابها هي وحساب من يلتحق بها من هذا الجانب أو ذاك.
ومن هنا شعرت الأقليات المسيحية في العالم العربي -مع طرح مقولات "النظام العالمي الجديد" خلال العقود الأخيرة- بأن الفرصة متاحة أمامها لفرض نفسها ومواقفها، ولو تجاوزت الرؤية الوطنية المشتركة، فكان هذا إيغالا أكثر في الخطأ؛ لأن مثل هذه الانطلاقات الفردية في وطن متعدد تعني أن الأقلية عزلت نفسها بيدها عن جسم الوطن.
لقد كان منتظرا من الأقليات المسيحية العربية حين نحاها مشروع الدولة العربية الحديثة كما نحى الأغلبية، ألا تستسلم لمشاعر الإحباط، مستعصمةً بآمال خاصة بها، أو ساعيةً إلى التأكيد على عوامل تميزها دون العوامل المشتركة بينها وبين الأغلبية، بل الواجب أن تمد يدها لشركاء الوطن –كما فعل بعض المفكرين المسيحيين في مصر بالفعل- من أجل السعي في إنقاذ مشروع الدولة من الانهيار، وبعثه وإعادة روح الأمل إليه بمختلف الوسائل الفكرية والسياسية والأدبية والتربوية.
إن المشروع الوطني الواحد يعني أن أنظر في المرآة فأرى جميع شركائي فيه كما أرى نفسي، أرى الأقلية كما أرى الأغلبية، أرى الهدف المشترك أكثر مما أرى الآمال الخاصة، بل أرى آمالي الخاصة في الآمال العامة.
وإذا كان العيش في وطن ما كأقلية عرقية أو دينية، قدرًا كُتب على كثير من الجماعات الإنسانية في القديم والحديث، فقد ثبت تاريخيا أن هذا كان في كثير من الأحيان من دواعي تفوقها اقتصاديا وتعليميا، وكان هذا مقرونا في العادة بسعي هذه الأقلية إلى حفظ السلم الاجتماعي، والمشاركة مع الآخرين في توفير الأجواء الصالحة، لكي يأخذ كل إنسان فرصته في الإبداع والإنجاز.
No comments:
Post a Comment