جمال البنا
ولا تفقد قضية الانتخابات أو الدستور أهميتها لأنها فى جوهرها قضية السلطة واقتسام كعكة الحكم، وهذه لا يحفل بها إلا أصحابها والحريصون عليها، أما عامة الشعب فإن ما يرونه حقاً هو حكم سريع ناجز يبدأ اليوم وليس غدًا.
ويقوم هذا الحكم لتحقيق مطالب الشعب، سواءً كانت تطهيرًا للبلاد من ذيول وأذناب نظام مبارك أو البدء فى الإصلاح.
وتحقيق هذا الحكم ممكن الآن دون أن ندخل دوامة الانتخابات والدستور وما تأتى به من مقامرات ومغامرات، وما تتأثر به من أهواء، بأفكار مسبقة بالنسبة للأحزاب أو الانتخابات أو الحكم. ما يهم الشعب هو حكم قوى يحقق مطالبه، أما الانتخابات والدساتير فإنها وسائل، وهذه الوسائل لها وقتها، أى عندما تصل البلاد إلى درجة من الاستقرار يمكن فيها إجراء الانتخابات ووضع الدستور، أما الآن فهذا لا يمكن.
إن الثورة لم تحقق أكبر أهدافها وهو تصفية آثار النظام ودولته القديمة، وتبعًا لهذا فإن الأمن لم يتحقق، والإنتاج يتعرض للتوقف للإضرابات حيناً ولمؤامرات الذين يشرفون عليه من مديرين أو ملاك حيناً آخر، ولم يحاكم مبارك والأربعة أحمد سرور وصفوت الشريف وزكريا عزمى وأحمد نظيف، والآخرون، الذين باعوا البلاد بأرخص الأثمان مثل عاطف عبيد ويوسف والى، وتكون محاكمتهم على أساس الفساد واستغلال النفوذ والتفريط فى أصول الدولة، ويجب أن يتضمن الحكم الإعدام أو السجن المؤبد مع تغريمهم كل ما استحوذوا عليه بالباطل من أموال.
إن الصورة السليمة للحكم الآن ليست لما يمكن أن تأتينا به الانتخابات، إن الصورة السليمة هى تعاون المجلس الأعلى للقوات المسلحة مع ائتلاف الثورة مع الوزارة، كل فريق له دور مهم ولا يستطيع غيره القيام به. المجلس الأعلى للقوات المسلحة ضرورى، لأن كل ثورة يجب أن تكون لديها قوة رادعة، وإلا فسيتمرد عليها أعوان النظام القديم، فهل يمكن أن نقضى قضاءً مبرمًا على نظام للشرطة قام على انتهاك كرامة الشعب لو لم يكن فى يد الثورة الجيش، الذى يحول دون تمرد الداخلية، أو أن تخدع بما لديها من قوة أو سلاح، وقل مثل ذلك على اللصوص الذين امتصوا ثروات البلاد ويجب استعادتها منهم بمختلف الطرق، وهل سيقبل أصحاب الأعمال ضرائب تصاعدية يمكن أن تصل إلى ثلاثين أو خمسين فى المائة عندما تجاوز الثروة المليون، فهذه كلها قوى لا يمكن أن تخضع إلا بالقوة، والجيش هو الذى لديه القوة، وفى الوقت نفسه فإن الجيش وحده لا يمكن أن يواصل الحكم لأن القوة وإن كانت لازمة فى معركة الهدم والبناء فإنها ليست مطلوبة فى السياق الهادئ والطبيعى للأمور، وقد أخطأ المجلس الأعلى فى كثير من الأمور، وانحرف بالثورة عن سـياقها الطبيعى لأنه لم يجد من يرشـده، وأخيرًا فإن الثـوار أنفسهم- وهم فى مقتبل العمر- ليست لديهم خبرات العمل والإدارة، فعندما يتفق المجلس الأعلى وائتلاف الثورة مع المجموعة الثمينة من الرجال الذين عرفوا بوطنيتهم وخبراتهم ومهاراتهم مثل الدكتور البرادعى والمستشار البسطويسى والدكتور كمال أبوالمجد، وأن يشغل الدكتور عبدالمنعم أبوالفتوح وزارة الصحة، فهنا يستكمل الأمر، وتمثيل ائتلاف الثوار قد يتطلب أن يكون لهم كيان مادى منظم ومنهج فى الميدان الذى هو المقر الرئيسى للثورة، فيجب الاحتفاظ لهم بركن منه، لا يعرقل المواصلات أو يضير مصلحة أحد، وفى هذا المقر يوجد بصفة دائمة مقر الائتلاف، ومنه يتابع نشاط الوزارة.
هذا هو الحكم الذى يريده الشعب، والذى ستقضى عليه الانتخابات التى يمكن أن تأتينا بالإخوان المسلمين والسلفيين وغيرهما ممن ليست لديهم فكرة حقيقية عن مدى تعقيد الحكم، ومن ناحية أخرى فلدينا الآن المجلس الأعلى ولدينا ائتلاف الثورة ولدينا الوزارة، ولكن كل منها يعمل مستقلاً، فلا يحقق الفاعلية أو النجاح.
إن كل مسعى الآن للانتخابات أو الدستور سيكون تصعيدًا للانحراف، حتى يصبح سدًا لسياق الإصلاح الذى كان يجب أن يبدأ مع الأيام الأولى للثورة، وكل تأخير سيؤدى إلى فشله، بعد أن فقدت الثورة حماستها وبردت حرارتها وتدخلت عناصر عديدة فيها.
إن معركة الثورة لم تتم، فهل يعقل أن نتركها ونشغل أنفسنا فى معركة انتخابية حارة يتقاتل فيها المرشحون؟ وهل نتصور أننا بعد الانتخابات سنكون أقدر على العمل أو أحرص على المصلحة الخاصة منا الآن؟
هيهات.. هيهات.. فى موقعة أحد، وفى موقعة بلاط الشهداء (الأندلس) حرص المسلمون على الغنائم وترك القتال، فكانت الهزيمة. وستتكرر المأساة إذا قفزنا من الثورة التى لم تتم إلى السلطة التى لم تنضج، «خلط فى خلط». كيف يهون عليكم أن تتركوا معركة الثورة التى لم تتم، لتتعاركوا على السلطة التى لم تتحدد معالمها وتتبلور سياستها، فتخسروا الثورة ولا تكسبوا السلطة.
أقول للإخوان المسلمين إنكم ترتكبون خطأ جسيمًا بتهالككم على الانتخابات، وتسلكون طريقاً مناقضًا لما وضعه الإمام الشهيد الذى عندما عرض عليه النحاس باشا أن يتنازل عن ترشيح نفسه فى البرلمان مقابل أن يترك له حرية الدعوة قبل بلا تردد، وقال إنها «حديبية جديدة».
ألم تقرأوا مقالاته فى جريدة الإخوان المسلمين اليومية التى نقلنا منها مقالين، الأول بعنوان «قاتَل الله السياسة»، والثانى بعنوان «نحن وطنيون ولسنا سياسيين أو حزبيين». ألم تفكروا أنه لو كان الإصلاح طريق البرلمان هو أفضل السبل أو هو خط الإصلاح لدى الإخوان، فلماذا لم يكوِّنوا حزبًا فى الفترة من ???? إلى ????؟ وكانوا قد وصلوا إلى الأوج ونازعوا الوفد على الصدارة فى المجتمع، لقد كان تكوين حزب أسهل شىء، إذ لم يكن يتطلب حتى الإشهار أو الإخطار، ولكن الإخوان لم يفعلوا لأنهم يعلمون أن ذلك سيكون على حساب «الدعوة بالحكمة والموعظة الحسنة» والاتصال الشخصى وأخذ النفس بالمجاهدات وتوجيهها للعمل الصالح، وهذا كله ما لا تستطيع الدولة أن تقوم به.
قرأت لأبى بكر كلمة وجهها للمهاجرين عن طريق عبدالرحمن بن عوف، عندما كان فى مرض الموت، وأنا أوجهها إليكم:
يقول الخبر «وزاره عبدالرحمن بن عوف فى مرضه الذى توفى فيه، فأصابه مفيقا، فقال أصبحت بحمد الله بارئاً، قال أبوبكر: أتراه؟ قال نعم، قال: أما أنى على ذلك لشديد الوجع، ولما لقيت منكم يا معشر المهاجرين أشد على من وجعى أنى وليت أمركم خيركم فى نفسى.. فكلكم ورم من ذلك أنفه، يريد أن يكون له الأمر، ورأيتم الدنيا مقبلة ولما تقبل وهى مقبلة حتى تتخذوا ستور الحرير ونضائد الديباج، وتألمون الاضطجاع على الصوف الأذربى كما يألم أحدكم الاضطجاع على شوك السعدان، والله لأن يقدم أحدكم فيضرب عنقه فى غير حد خير له من أن يخوض فى غمرة الدنيا، ألا وإنكم أول ضال بالناس غدًا فتصدونهم عن الطريق يميناً وشمالاً، يا هادى الطريق جرت إنما هو الفجر أو البجر».
أقول للإخوان ما قاله أبوبكر على بعض المهاجرين «ألا وإنكم أول ضال بالناس غدًا فتصدونهم عن الطريق يميناً وشمالاً، يا هادى الطريق جرت إنما هو الفجر أو البجر».
تأتينا دعوات متحمسة من أفراد من أعلى مستويات الفكر، تعلن إيمانها وتريد أن نتعرف إلى أمثالها وتطلب منا أن نفتح باب ذلك.
No comments:
Post a Comment