مارس 2010 1
عاد الدكتور محمد البرادعى إلى أرض الوطن بعد رحلة طويلة من العمل الدبلوماسى، انتهاء بترؤسه لإحدى أهم الوكالات الدولية المتخصصة وكالة الطاقة الذرية، واستقبل من جموع عريضة من المواطنين استقبالا حافلا. فماذا يحدث فى مصر؟
لايمكن أن يكون الأمر مجرد شخص مهما بلغت قيمته هو التفسير الكامل أو الكافى، بل لابد وأن يكون وراء الظاهر شيئ «جماعى»، فهو أقرب إلى الظاهرة الشعبية منها إلى الاحتفال بشخص.
لاشك أن الدكتور البرادعى شخص متميز حقق نجاحا كبيرا بتوليه مركزا دوليا مرموقا فى لحظة تاريخية حرجة، حبس فيها العالم أنفاسه عندما بدأت عواصف الحرب تتجمع حول العراق بالادعاء بأن هذا البلد العربى يختزن أسلحة للدمار الشامل وبما يهدد استقرار منطقة الشرق الأوسط وربما السلم العالمى أيضا. وفى هذا الظرف الدقيق سلك الدكتور البرادعى سلوكا منضبطا وحازما بعدم توريط المجتمع الدولى فى حرب جديدة باسم الشرعية الدولية بتقديم «أدلة» على حيازة العراق لهذه الأسلحة، حيث ظلت «الوكالة» غير قاطعة فى التأكيد على وجود مثل هذه الأسلحة. وبالطبع لم يكن الأمر سهلا ولم يتطلب فقط نزاهة فى الرأى وإنما احتاج، وبنفس القدر، إلى كثير من الحصافة والحكمة بعدم إثارة الدول الكبرى وإضعاف مكانة الوكالة. فكان موقفه منصفا للعراق بقدر ما كان غير مثير لحنق الولايات المتحدة ومن سار فى ركابها. فهو لم يتسرع فى اتهام العراق، وفى نفس الوقت لم يورط «الوكالة» فى أزمة مع القوى العظمى. ومن هنا لم يكن أمام الولايات المتحدة ومن وراءها انجلترا إلا إعلان الحرب على العراق بقرار منفرد دون ترخيص من الأمم المتحدة. وهى الحرب التى وصفها الرئيس الأمريكى اللاحق أوباما بأنها حرب «اختيار» لم تكن ضرورية، وأقامت الحكومة البريطانية اللاحقة جلسات «استماع» لتونى بلير للتحقيق فى سلامة قراره بالمشاركة فى حرب العراق. وقد تحقق كل هذا إلى حد كبير نتيجة لمواقف الدكتور البرادعى الصلبة دون انفعال أو صخب، ولم يكن موقفه من إيران أقل صلابة أو أدنى حكمة.
كل هذا صحيح ويستحق عليه الدكتور البرادعى التقدير والاحترام، ولكن هذا لايكفى لتفسير «ظاهرة» البرادعى وخروج المظاهرات للاحتفاء بعودته أو إثارة التحركات الجماهيرية لتأييده ودعمه لدخول الحلبة السياسية. فليس من السهل الاعتقاد بأن هذه «الحيوية» المفاجئة فى الحياة السياسية إنما ترجع إلى رغبة الناس فى الاحتفال بعودة البرادعى لمواقفه فى وكالة الطاقة الذرية. لابد أن وراء ذلك «شيئا» دفينا فى قلوب الناس يحتاج أن يعبر عن نفسه فى العلن، وقد وجد فى عودة الدكتور البرادعى وشخصه ما يساعده على التعبير عن هذا «الشىء». فلم يكن خروج الآلاف لاستقباله أو انطلاق مئات المواقع الالكترونية للترحيب به لم يكن كل هذا مجرد رغبة فى تكريم موظف دولى مرموق أدى عمله بنزاهة وشرف، بل كان فى الأغلب تعبيرا عن أزمة عميقة فى نفوس الناس.
«ظاهرة البرادعى» إذن، ليست ظاهرة لشخص أو فرد بقدر ما هى ظاهرة جماعية لقطاعات واسعة من الشعب المصرى تحن إلى «التغيير». وجاء البرادعى ليحرك ويفجر هذه الرغبة فى الاستقرار والتغيير معا. فالمجتمعات لاتستطيع العيش، ومن باب أولى لاتزدهر، فى جو من الاضطراب والقلق وعدم اليقين، بل هى تحتاج إلى وضوح الرؤية، ومن ثم الحاجة للاستقرار. ولكن على الجانب الآخر، فإن نفس الجماعات تمل من الرتابة وعدم التجديد، وبوجه خاص من الجمود الذى يولد الكآبة والخمول. وهذه هى الرغبة فى التغيير. وكنت قد أصدرت منذ سنوات طويلة كتابا بعنوان «التغيير من أجل الاستقرار»، مذكرا بأن التغيير ليس مناقضاَ للاستقرار، بل قد يكون من أهم مقوماته. فالاستقرار لايعنى الجمود بل معناه التلاؤم بين الظروف والأوضاع والنظم والقواعد. ونظرا لأن هذه الظروف وتلك الأوضاع فى تغير مستمر، فكذا ينبغى أن تكون النظم والقواعد بل والأشخاص.
الاستقرار يتطلب توازنا مستمرا بين ظروف الحياة المتغيرة، وبين القواعد والنظم والمؤسسات وبالتالى متابعة هذه التغيرات. فالتغيير أمر لازم ومكمل للاستقرار. الاستقرار مطلوب للحياة، ولكن الحياة متغيرة بطبيعتها، وبالتالى فالجمود هو عدو الاستقرار. والمشكلة الاجتماعية فى مصر ترجع إلى استمرار فى الأوضاع هو أقرب إلى الجمود، وذلك بنفس السياسات ونفس الوجوه ونفس الخطاب ونفس الأساليب، مما جعل المشهد العام باهتا ومملا بلا إثارة ولاتجديد ولاابتكار. ولكن مشكلة المجتمع المصرى تبدو أعمق ليس فقط نتيجة مشهد ممل استمر لأكثر من ربع قرن دون أى تغيير يذكر، ولكن، وهذا هو الأخطر، هو ما صاحبه من تدهور فى العديد من مظاهر الحياة اليومية للمواطن العادى. فالمشكلة لم تعد فى جمود الأوضاع بل أيضا فى تدهورها.
لن أتحدث هنا عن الديمقراطية أو الحريات أو قوانين الطوارئ والمستمرة دون انقطاع تقريبا منذ بداية الحرب العالمية الثانية، فهذه كلها أمور تتعلق بالحرية والحقوق الدستورية، وهى ليست بالضرورة من أولويات رجل الشارع العادي. هذا الأخير يُعنى بلقمة العيش وحياته اليومية، ولذلك فهو لاينسى طوابير الخبز أو البوتاجاز، كما تهمه مشاكل تعليم أولاده وصحتهم، وظروف المواصلات والإسكان. وهو يجد فى كل هذا مشقة متزايدة كل يوم.
فالتعليم يزداد تدهورا مع ظهور انقسام فى المنظومة التعليمية بين تعليم حكومى عام متدن لجمهور الشعب، وتعليم خاص مكلف لايصل إليه إلا المحظوظون من ذوى الدخول العالية. وبذلك فقدت الطبقة الوسطى أهم سلاح تمتعت به مصر الحديثة، وهو الاندماج الاجتماعى من خلال التعليم. فالتعليم ــ وخاصة التعليم الحكومى ــ كان دائما السبيل للارتقاء الاجتماعى أمام الفقراء والطبقة المتوسطة. وكانت هذه الوسيلة للاندماج الاجتماعى متاحة للجميع ــ بشكل عام من خلال المدارس الحكومية لقاعدة عريضة من السكان، والآن أصبح التعليم أحد أسباب اتساع الفروق الاجتماعية. فالغالبية من أبناء الفقراء والطبقة المتوسطة تذهب إلى المدارس الحكومية، والقلة تتعلم فى المدارس الأجنبية والخاصة ثم تنتقل إلى الجامعات الخاصة حيث تتاح أمامها فرص العمل فى المؤسسات الحديثة. لقد أصبح النظام التعليمى القائم عنصرا للانفصام الاجتماعى بعد أن كان عاملا للاندماج.
ولم يكن مصير الصحة العامة أفضل حالا، فالمستشفيات الحكومية لم تعد قادرة على مواجهة طلبات الجماهير، وتزايدت تكاليف العيادات والمستشفيات الخاصة، بل وأصبحت الأوبئة الجديدة أمراضا متوطنة فى مصر. أما المواصلات والتى كانت متاحة بأسعار رخيصة ومعقولة، فهى لم تعد كذلك فضلا عن الازدحام الذى جعل الحياة اليومية رحلة عذاب.
وإذا نظرنا إلى الإسكان العشوائى، والذى بدأ على حياء فى السبعينيات بعد تهجير بعض سكان مدن القناة فى أثر حرب 1967، قد أصبح إحدى سمات المدن الكبرى، بل إن العديد من الأحياء الراقية القديمة قد تحولت إلى ما يشبه أحيانا الإسكان العشوائى. وفى مقابل هذا التدهور بدأت تتراكم القصور والفيللات فى المناطق المسورة بعيدا عن أعين المتطفلين.
وأما النظافة فقط أصبحت من تراث الماضى وذلك عندما كانت الطرق ترش بالمياه يوميا، والآن أصبحت معظم الأحياء السكنية تضم أكواما من الزبالة والقذارة. وأما الأسعار فتحدث ولاحرج. وإذا كان رئيس الوزراء يباهى بأن معدل التضخم انخفض إلى 13% بعد أن كان 20%، فأين هى الأجور التى تتزايد بمعدل 20% سنويا لمواجهة أعباء التضخم؟ ورغم ما نسمع من ارتفاع الأجور لعدد من المحظوظين، فإن بطالة الخريجين لا تزال على ما هى عليه.
وحتى تزداد الصورة قسوة ومرارة، فإن أحاديث الفساد لكبار المسئولين تزكم الأنوف. فهذا فساد فى وزارة الزراعة وآخر فى وزارة الإسكان وثالث فى المحليات ورابع وخامس. وعندما يحاكم بعض المسئولين عن جرائم ترتب عليها ضحايا بالعشرات وأحيانا أكثر وخسائر وأموال بالملايين، فإن عددا غير قليل منهم يتمكن من الهرب من المنافذ الرسمية ليستقر فى لندن أو باريس. وماذا عن مظاهر الفتنة الطائفية وتزايد مظاهرها فى الفترة الأخيرة؟
لكل ذلك، لم يكن غريبا أن تترسب فى نفوس الجماهير رغبة عارمة فى «التغيير». وهى رغبة مكبوتة تتطلب شرارة لانطلاقها. وقد جاءت عودة الدكتور البرادعى كعود الثقاب إلى جوار برميل من البارود، فانطلقت الشرارة الأولى، وقد لاتكون الأخيرة. سوف يكون من الخطأ أو السذاجة الوقوف عند شخص الدكتور البرادعى الذى جاء فى اللحظة المناسبة لتفجير الطاقة الشعبية المكبوتة للتغيير. المشكلة ليست فى البرادعى، فهو ليس أكثر من تعبير عن ظاهرة اجتماعية تسعى إلى «التغيير» بعد أن ملت من الجمود واستاءت من أشكال الفساد والجهل والإهمال.
عندما قامت ثورة 1919، كان الشعب يعانى من الاحتلال الأجنبى والاستغلال فى فترة الحرب العالمية الأولى، وكان يتطلع للخلاص من هذه الأوضاع. ولم يكن سعد زغلول إلا واحدا من كبار السياسيين المعروفين. كان سعد وزيرا فى حكومة بطرس غالى التى وافقت على تجديد امتياز شركة قناة السويس على غير الرغبة الجماهيرية. واغتيل بطرس غالى ثمنا لذلك. ولم يعرف عن سعد باشا معارضته لتلك الاتفاقية، بل إنه دافع عنها. ولكن عندما اعتقل الحاكم البريطانى سعد باشا بعد مطالبته بالاستقلال، وجدت الجماهير فى سعد من يعبر عن آمالها، فخرجت إلى الشارع. فسعد لم يكن أكثر من الشرارة التى فجرت برميل البارود المخزن.
لقد ظهرت بعض الكتابات خاصة فى الصحافة القومية تتناول الدكتور البرادعى من طرف خفى بالتهوين من شأنه حينا، أو التشكيك فى برامجه وأفكاره حينا آخر، كما لو كان البرادعى فى نظرهم هو المشكلة.
البرادعى يستجيب لحاجة جماهيرية. فالبرادعى ليس هو القضية، القضية هى الرغبة العميقة لدى قطاع عريض من الشعب فى «التغيير». المشكلة ليست الدكتور البرادعى وآراءه السياسية أو برنامجه الانتخابى، وإنما هى رغبة الناس فى التغيير. لقد نجح البرادعى فى تفجير هذه الطاقة الكامنة لأنه عبر عن حاجة عميقة فى نفوس المصريين، وهو فضلا عن ذلك رجل نظيف سجله مشرف. وقد ينجح البرادعى وقد لاينجح، ولكن القضية ستظل قائمة ما لم يحدث «التغيير».
الدكتور البرادعى ليس أكثر من عود الثقاب إلى جوار برميل من البارود. وقد تتم السيطرة على عود الثقاب، ولكن طالما أن برميل البارود موجود، فإن خطر الاشتعال سيظل قائما. والله أعلم.
www.hazembeblawi.com
لايمكن أن يكون الأمر مجرد شخص مهما بلغت قيمته هو التفسير الكامل أو الكافى، بل لابد وأن يكون وراء الظاهر شيئ «جماعى»، فهو أقرب إلى الظاهرة الشعبية منها إلى الاحتفال بشخص.
لاشك أن الدكتور البرادعى شخص متميز حقق نجاحا كبيرا بتوليه مركزا دوليا مرموقا فى لحظة تاريخية حرجة، حبس فيها العالم أنفاسه عندما بدأت عواصف الحرب تتجمع حول العراق بالادعاء بأن هذا البلد العربى يختزن أسلحة للدمار الشامل وبما يهدد استقرار منطقة الشرق الأوسط وربما السلم العالمى أيضا. وفى هذا الظرف الدقيق سلك الدكتور البرادعى سلوكا منضبطا وحازما بعدم توريط المجتمع الدولى فى حرب جديدة باسم الشرعية الدولية بتقديم «أدلة» على حيازة العراق لهذه الأسلحة، حيث ظلت «الوكالة» غير قاطعة فى التأكيد على وجود مثل هذه الأسلحة. وبالطبع لم يكن الأمر سهلا ولم يتطلب فقط نزاهة فى الرأى وإنما احتاج، وبنفس القدر، إلى كثير من الحصافة والحكمة بعدم إثارة الدول الكبرى وإضعاف مكانة الوكالة. فكان موقفه منصفا للعراق بقدر ما كان غير مثير لحنق الولايات المتحدة ومن سار فى ركابها. فهو لم يتسرع فى اتهام العراق، وفى نفس الوقت لم يورط «الوكالة» فى أزمة مع القوى العظمى. ومن هنا لم يكن أمام الولايات المتحدة ومن وراءها انجلترا إلا إعلان الحرب على العراق بقرار منفرد دون ترخيص من الأمم المتحدة. وهى الحرب التى وصفها الرئيس الأمريكى اللاحق أوباما بأنها حرب «اختيار» لم تكن ضرورية، وأقامت الحكومة البريطانية اللاحقة جلسات «استماع» لتونى بلير للتحقيق فى سلامة قراره بالمشاركة فى حرب العراق. وقد تحقق كل هذا إلى حد كبير نتيجة لمواقف الدكتور البرادعى الصلبة دون انفعال أو صخب، ولم يكن موقفه من إيران أقل صلابة أو أدنى حكمة.
كل هذا صحيح ويستحق عليه الدكتور البرادعى التقدير والاحترام، ولكن هذا لايكفى لتفسير «ظاهرة» البرادعى وخروج المظاهرات للاحتفاء بعودته أو إثارة التحركات الجماهيرية لتأييده ودعمه لدخول الحلبة السياسية. فليس من السهل الاعتقاد بأن هذه «الحيوية» المفاجئة فى الحياة السياسية إنما ترجع إلى رغبة الناس فى الاحتفال بعودة البرادعى لمواقفه فى وكالة الطاقة الذرية. لابد أن وراء ذلك «شيئا» دفينا فى قلوب الناس يحتاج أن يعبر عن نفسه فى العلن، وقد وجد فى عودة الدكتور البرادعى وشخصه ما يساعده على التعبير عن هذا «الشىء». فلم يكن خروج الآلاف لاستقباله أو انطلاق مئات المواقع الالكترونية للترحيب به لم يكن كل هذا مجرد رغبة فى تكريم موظف دولى مرموق أدى عمله بنزاهة وشرف، بل كان فى الأغلب تعبيرا عن أزمة عميقة فى نفوس الناس.
«ظاهرة البرادعى» إذن، ليست ظاهرة لشخص أو فرد بقدر ما هى ظاهرة جماعية لقطاعات واسعة من الشعب المصرى تحن إلى «التغيير». وجاء البرادعى ليحرك ويفجر هذه الرغبة فى الاستقرار والتغيير معا. فالمجتمعات لاتستطيع العيش، ومن باب أولى لاتزدهر، فى جو من الاضطراب والقلق وعدم اليقين، بل هى تحتاج إلى وضوح الرؤية، ومن ثم الحاجة للاستقرار. ولكن على الجانب الآخر، فإن نفس الجماعات تمل من الرتابة وعدم التجديد، وبوجه خاص من الجمود الذى يولد الكآبة والخمول. وهذه هى الرغبة فى التغيير. وكنت قد أصدرت منذ سنوات طويلة كتابا بعنوان «التغيير من أجل الاستقرار»، مذكرا بأن التغيير ليس مناقضاَ للاستقرار، بل قد يكون من أهم مقوماته. فالاستقرار لايعنى الجمود بل معناه التلاؤم بين الظروف والأوضاع والنظم والقواعد. ونظرا لأن هذه الظروف وتلك الأوضاع فى تغير مستمر، فكذا ينبغى أن تكون النظم والقواعد بل والأشخاص.
الاستقرار يتطلب توازنا مستمرا بين ظروف الحياة المتغيرة، وبين القواعد والنظم والمؤسسات وبالتالى متابعة هذه التغيرات. فالتغيير أمر لازم ومكمل للاستقرار. الاستقرار مطلوب للحياة، ولكن الحياة متغيرة بطبيعتها، وبالتالى فالجمود هو عدو الاستقرار. والمشكلة الاجتماعية فى مصر ترجع إلى استمرار فى الأوضاع هو أقرب إلى الجمود، وذلك بنفس السياسات ونفس الوجوه ونفس الخطاب ونفس الأساليب، مما جعل المشهد العام باهتا ومملا بلا إثارة ولاتجديد ولاابتكار. ولكن مشكلة المجتمع المصرى تبدو أعمق ليس فقط نتيجة مشهد ممل استمر لأكثر من ربع قرن دون أى تغيير يذكر، ولكن، وهذا هو الأخطر، هو ما صاحبه من تدهور فى العديد من مظاهر الحياة اليومية للمواطن العادى. فالمشكلة لم تعد فى جمود الأوضاع بل أيضا فى تدهورها.
لن أتحدث هنا عن الديمقراطية أو الحريات أو قوانين الطوارئ والمستمرة دون انقطاع تقريبا منذ بداية الحرب العالمية الثانية، فهذه كلها أمور تتعلق بالحرية والحقوق الدستورية، وهى ليست بالضرورة من أولويات رجل الشارع العادي. هذا الأخير يُعنى بلقمة العيش وحياته اليومية، ولذلك فهو لاينسى طوابير الخبز أو البوتاجاز، كما تهمه مشاكل تعليم أولاده وصحتهم، وظروف المواصلات والإسكان. وهو يجد فى كل هذا مشقة متزايدة كل يوم.
فالتعليم يزداد تدهورا مع ظهور انقسام فى المنظومة التعليمية بين تعليم حكومى عام متدن لجمهور الشعب، وتعليم خاص مكلف لايصل إليه إلا المحظوظون من ذوى الدخول العالية. وبذلك فقدت الطبقة الوسطى أهم سلاح تمتعت به مصر الحديثة، وهو الاندماج الاجتماعى من خلال التعليم. فالتعليم ــ وخاصة التعليم الحكومى ــ كان دائما السبيل للارتقاء الاجتماعى أمام الفقراء والطبقة المتوسطة. وكانت هذه الوسيلة للاندماج الاجتماعى متاحة للجميع ــ بشكل عام من خلال المدارس الحكومية لقاعدة عريضة من السكان، والآن أصبح التعليم أحد أسباب اتساع الفروق الاجتماعية. فالغالبية من أبناء الفقراء والطبقة المتوسطة تذهب إلى المدارس الحكومية، والقلة تتعلم فى المدارس الأجنبية والخاصة ثم تنتقل إلى الجامعات الخاصة حيث تتاح أمامها فرص العمل فى المؤسسات الحديثة. لقد أصبح النظام التعليمى القائم عنصرا للانفصام الاجتماعى بعد أن كان عاملا للاندماج.
ولم يكن مصير الصحة العامة أفضل حالا، فالمستشفيات الحكومية لم تعد قادرة على مواجهة طلبات الجماهير، وتزايدت تكاليف العيادات والمستشفيات الخاصة، بل وأصبحت الأوبئة الجديدة أمراضا متوطنة فى مصر. أما المواصلات والتى كانت متاحة بأسعار رخيصة ومعقولة، فهى لم تعد كذلك فضلا عن الازدحام الذى جعل الحياة اليومية رحلة عذاب.
وإذا نظرنا إلى الإسكان العشوائى، والذى بدأ على حياء فى السبعينيات بعد تهجير بعض سكان مدن القناة فى أثر حرب 1967، قد أصبح إحدى سمات المدن الكبرى، بل إن العديد من الأحياء الراقية القديمة قد تحولت إلى ما يشبه أحيانا الإسكان العشوائى. وفى مقابل هذا التدهور بدأت تتراكم القصور والفيللات فى المناطق المسورة بعيدا عن أعين المتطفلين.
وأما النظافة فقط أصبحت من تراث الماضى وذلك عندما كانت الطرق ترش بالمياه يوميا، والآن أصبحت معظم الأحياء السكنية تضم أكواما من الزبالة والقذارة. وأما الأسعار فتحدث ولاحرج. وإذا كان رئيس الوزراء يباهى بأن معدل التضخم انخفض إلى 13% بعد أن كان 20%، فأين هى الأجور التى تتزايد بمعدل 20% سنويا لمواجهة أعباء التضخم؟ ورغم ما نسمع من ارتفاع الأجور لعدد من المحظوظين، فإن بطالة الخريجين لا تزال على ما هى عليه.
وحتى تزداد الصورة قسوة ومرارة، فإن أحاديث الفساد لكبار المسئولين تزكم الأنوف. فهذا فساد فى وزارة الزراعة وآخر فى وزارة الإسكان وثالث فى المحليات ورابع وخامس. وعندما يحاكم بعض المسئولين عن جرائم ترتب عليها ضحايا بالعشرات وأحيانا أكثر وخسائر وأموال بالملايين، فإن عددا غير قليل منهم يتمكن من الهرب من المنافذ الرسمية ليستقر فى لندن أو باريس. وماذا عن مظاهر الفتنة الطائفية وتزايد مظاهرها فى الفترة الأخيرة؟
لكل ذلك، لم يكن غريبا أن تترسب فى نفوس الجماهير رغبة عارمة فى «التغيير». وهى رغبة مكبوتة تتطلب شرارة لانطلاقها. وقد جاءت عودة الدكتور البرادعى كعود الثقاب إلى جوار برميل من البارود، فانطلقت الشرارة الأولى، وقد لاتكون الأخيرة. سوف يكون من الخطأ أو السذاجة الوقوف عند شخص الدكتور البرادعى الذى جاء فى اللحظة المناسبة لتفجير الطاقة الشعبية المكبوتة للتغيير. المشكلة ليست فى البرادعى، فهو ليس أكثر من تعبير عن ظاهرة اجتماعية تسعى إلى «التغيير» بعد أن ملت من الجمود واستاءت من أشكال الفساد والجهل والإهمال.
عندما قامت ثورة 1919، كان الشعب يعانى من الاحتلال الأجنبى والاستغلال فى فترة الحرب العالمية الأولى، وكان يتطلع للخلاص من هذه الأوضاع. ولم يكن سعد زغلول إلا واحدا من كبار السياسيين المعروفين. كان سعد وزيرا فى حكومة بطرس غالى التى وافقت على تجديد امتياز شركة قناة السويس على غير الرغبة الجماهيرية. واغتيل بطرس غالى ثمنا لذلك. ولم يعرف عن سعد باشا معارضته لتلك الاتفاقية، بل إنه دافع عنها. ولكن عندما اعتقل الحاكم البريطانى سعد باشا بعد مطالبته بالاستقلال، وجدت الجماهير فى سعد من يعبر عن آمالها، فخرجت إلى الشارع. فسعد لم يكن أكثر من الشرارة التى فجرت برميل البارود المخزن.
لقد ظهرت بعض الكتابات خاصة فى الصحافة القومية تتناول الدكتور البرادعى من طرف خفى بالتهوين من شأنه حينا، أو التشكيك فى برامجه وأفكاره حينا آخر، كما لو كان البرادعى فى نظرهم هو المشكلة.
البرادعى يستجيب لحاجة جماهيرية. فالبرادعى ليس هو القضية، القضية هى الرغبة العميقة لدى قطاع عريض من الشعب فى «التغيير». المشكلة ليست الدكتور البرادعى وآراءه السياسية أو برنامجه الانتخابى، وإنما هى رغبة الناس فى التغيير. لقد نجح البرادعى فى تفجير هذه الطاقة الكامنة لأنه عبر عن حاجة عميقة فى نفوس المصريين، وهو فضلا عن ذلك رجل نظيف سجله مشرف. وقد ينجح البرادعى وقد لاينجح، ولكن القضية ستظل قائمة ما لم يحدث «التغيير».
الدكتور البرادعى ليس أكثر من عود الثقاب إلى جوار برميل من البارود. وقد تتم السيطرة على عود الثقاب، ولكن طالما أن برميل البارود موجود، فإن خطر الاشتعال سيظل قائما. والله أعلم.
www.hazembeblawi.com
No comments:
Post a Comment