Sunday, July 31, 2011

معضلات فى طريق الثورة



ثورتنا حتى الآن سياسية (أى ضد الساسة الذين كانوا يحكموننا)، ولكنها ليست ثورة فكرية أو أخلاقية بعد. لم نزل نفكر فى أغلبنا بنفس الطريقة القديمة.

أغلب المصريين يعيشون معضلة «المأزق المفتعل» (false dilemma) وهى تقوم على افتراض أن أى سؤال له إجابة واحدة صحيحة وإجابة واحدة خطأ. وبما أن الكثير من الأمور الفكرية والثقافية والدينية تتأبى على هذا الافتراض، فإن الإنسان صاحب هذا المأزق المفتعل يفترض أنه هو مركز الإجابة الصحيحة. وكل من هم عن يمينه مخطئون وكل من عن يساره مخطئون.

لى خبرة مباشرة تؤكد أننا مصابون (بدرجة ما) بهذا المرض. فقد وصفنى البعض بحدة بأننى إخوان (أو على الأقل خرجت من عباءتهم). وقد وصفنى آخرون بأننى علمانى متغرب (أو على الأقل مهزوم نفسيا تجاه الغرب)، ثم بدأت موجة انتقادى لأننى «محامى الجيش» وكأنه جيش إسرائيل، مع أنه الجيش الذى نريده جميعا أن يترك الحكم فى أقرب فرصة وبأسرع وقت، وهو وعد بهذا. ثم أجد من ينتقدنى كذلك لأننى «دافعت عن حركة 6 أبريل» التى ثبت للبعض، أنهم «خونة وعملاء.» وهو ما لا أقبله إلا ببينة دامغة، وحتى الآن لم أر أمامى هذه البينة.

وما يزعجنى حقا أن البعض يتبنى استراتيجية هادمة لذاتها (self-defeating strategy) يريدون أن يتخلصوا من الحكم العسكرى ويتخذوا كل التدابير التى تطيل فترة بقاء العسكر فى السلطة.

يطالبون بتمديد فترة الحكم العسكرى الانتقالى، وفى نفس الوقت يسعون للصدام مع المجلس العسكرى ولا أدرى هل هم واعون بأنهم قد ينتهون إلى أن البلد كله يغرق فى الفوضى.

●●●

وهناك معضلة أخرى، اهتم باحثو علم الاجتماع السياسى فى أمريكا اللاتينية فى دراستها وهو ما سموه: تفاوت المكانة الاجتماعية والسياسية للثائرين. ولا أعرف مدى إمكانية انطباق هذا التحليل على حالتنا، ولكن طرح الفكرة وارد حتى من باب التأمل الذهنى؛ فالثائر يتحول إلى نجم وزعيم سياسى. وإن لم يصل إلى السلطة فيكون مطالبا بأن يعود إلى الحياة المدنية التقليدية فى مكانه ومكانته المجتمعية التقليدية؛ فلو كان مهندسا أو محاميا سيعود فى أعقاب الثورة إلى وضعه الطبيعى له مدير وله زملاء وتحكمه اللوائح والقوانين بما فيها من حضور وانصراف. إذن هو يقع فى مفارقة أنه بين الثائرين «زعيم» تستضيفه الفضائيات ويحضر الندوات ويجلس مع الوزراء والقيادات. وبعد أن ينتهى كل هذا يكون مطالبا بأن يعود إلى مكتبه أو شركته لتنطبق عليه القيود البيروقراطية المعتادة.

إذن الثائر لا شعوريا يرى أن مكانه الذى يحقق فيه مكانته هو فى الثورة وبين الثائرين، وليس فى المكتب بين الموظفين. هذا ما يفسر لماذا قال لى بعض الأصدقاء، الذين لم تأخذهم أضواء الثورة، أنهم يستغربون كيف انقلب حال ميادين التحرير من ساحة لتلاقى الجميع لساحة لبعض الناس (ولا أقول كل الناس) الذين لا توجد لديهم مهنة أخرى غير الثورة والتظاهر والاعتصام.

هذا الدافع النفسى لا يغفل أن الكثير من الشباب الثائر لهم مطالب مشروعة جدا، بل لولا أنهم طالبوا بها لما وجدنا هذا التسارع فى تغيير وزراء ومحافظين والتطهير والإسراع فى المحاسبات. ولهذا لابد من شكرهم. ولكن هناك معضلة ترتبط بأن البعض يشكرهم، وفى نفس الوقت ينتقدهم، رغما عن أنهم، من وجهة نظرهم، استخدموا نفس الأدوات التى أدت إلى الشكر والمديح مرة وإلى النقد والتقريع مرة أخرى. هل من طريقة ما لفهم هذه المعضلة؟
طبعا. هذه هى «البرجماتية التجريبية». الثورة كفكرة، كما يقول ايريك هوبسبوم، هى أكبر تجربة يمكن لمجتمع أن يخوضها.

وككل تجربة، وككل قراءة برجماتية، فالحكم عليها يكون بنتائجها. الاعتصام المفضى إلى نتائج إيجابية، هو اعتصام جيد ونبيل وخير. والاعتصام المفضى إلى نتائج سلبية، هو اعتصام سيئ ومعيب وشرير.

قياسا على مدخل ايريك هوبسبوم فى تحليله للمحاولات الثورية. لو كان فشل انقلاب 1952 لكان وصف جمال عبدالناصر والتسعين ضابطا الذين معهم أنهم خونة وخارجون على القانون. ولو كانت الأسود هى التى نجحت فى ترويض الإنسان لكانوا كتبوا التاريخ بطريقة مغايرة قطعا.

ولأن التجربة الثورية يمكن أن تفضى إلى نقيضها، مثلما هو الحال مع الحجر الضخم الذى ينزل مندفعا من قمة الجبل، فإن أى حجر صغير يمكن أن يحول مسار الحجر الضخم. لذا الثورة لا بد أن يعقبها مرحلة من التفكير الهادئ والعقلانى الذى يتبنى قيم وأهداف الثورة ولكن يديرها بالطريقة التى تحققها، لأن الثائرين «جوعى» (والتعبير لهوبسبوم)، ويريدون الجائزة حالا. وكل الثورات هدأت ولكن بعضها يهدأ بعد سنوات من الثورة الدائمة ومن هنا جاء التعبير الشهير لأنتونى جيدينس «الثورة تأكل أبناءها،»، مثلما حدث فى فرنسا وفى الصين وروسيا وإيران والبرازيل حين تقاتل الثوار من أجل من يحصل على الجائزة الكبرى وهى حكم البلاد وكان القتال دمويا ولعدة سنوات.

وهو ما نجا به الله مصر بفضل الطريقة التى أديرت بها هذه المرحلة الانتقالية. وستظل فترة ملتبسة حتى بعد عشرات السنين، ولكن ضعونى فى خانة من يذكر للقوى الثورية إجمالا أنها كانت راقية فى سلوكها، وللمجلس الأعلى للقوات المسلحة أنه اجتهد وأصاب كثيرا وأخطأ أحيانا.

انتقدوا المجلس العسكرى كيفما تشاءون، قولوا فيه ما قال مالك فى الخمر. ولكن عندى من حمى الثورة ورفض أن يقتل أبناءنا، سواء لحسن خلق وفضيلة، أو لقراءة ذكية وواقعية لموازين القوى، أحسن فعلا. ومن يرد أن يطهر مصر من أمراضها، فليبدأ بتطهير بيته، وليقنع أباه وأمه وأخاه بأن يتوقفوا عن الرشوة وسوء الخلق، وليتوقف هو عن الإهمال فى عمله أو المبالغة فى النيل من الآخرين لمجرد أنهم يختلفون معهم فى الرأى.

«
كن التغيير الذى تريد أن تراه فى الآخرين»، كما قال غاندى. ابدأ بثورة فى ذاتك وفى المحيطين بك، إن كنت جادا فى تطهير مصر، طهِّر من يقعون فى دائرة تأثيرك أولا وابدأ بنفسك.

●●●

إن القوات المسلحة تقوم بدور مؤقت وضرورى، وهو حماية البلاد من الاقتتال المحتمل بين قواها السياسية المختلفة نتيجة غياب المؤسسات، وإدعاء الكثيرين بأنهم الثورة وأنهم الشعب وأنهم العارفون الحقيقيون بمصالح البلاد. أعاتب قيادات المجلس العسكرى، فى السر، أكثر مما أفعل فى العلن، لأن المهاجمين فى العلن كثيرون، ولكن المضمون لا يكون عادة مختلفا.

أختلف مع بعض القيادات وأتمنى منهم أن يكونوا أكثر استجابة وأسرع تفاعلا مع نبض الشارع، لكن فى نفس الوقت هم حماة هذا الوطن من أعدائه ومن أبنائه حتى يأتى اليوم الذى يغادرون فيه السلطة كما وعدوا وكما نريد.

No comments:

Post a Comment