"ماكْس مانْوارِنْج" أستاذ بمعهد الدراسات الاستراتيجية، كلية حرب الجيش الأمريكي، عمل فى المخابرات العسكرية وفى قيادة الجيش، حدّد بطريقة قاطعة ملامح ما سمّاه بـ(الجيل الرابع للحرب غير المتكافئة"، فى محاضرة أمام نخبة من القيادات العسكرية والمخابراتية.. أُلخِّصُها فيما يلى:
"ماذا تعنى الحرب..؟ الحرب معناها (الإكراه) أى إرغام العدو على الاستسلام لإرادتك.. كانت الفكرة القديمة أن تنشب الحرب بين دولتين أو تحالفين؛ يعنى بين جيوش.. حيث يتجَلَّى فى ساحة المعركة: أعلام.. وطيران.. وزِيّ عسكرى.. وعبور حدود دولة مستقلّة.. والغرض هو الاستيلاء على قطعة من الأرض.. أو الدولة بأسرها. ولكن مع التجربة وخلال العشرين سنة الماضية بدأت هذه الفكرة تضْمَحِلّ، ويحلّ مكانها بالتدريج فكرة (الحرب غير المتكافئة).." ثم يتابع:
"مايزال الناس يتحدثون عن القوات النظامية التى تعْبُرُ الحدود.. لقد فعلنا هذا فى أمريكا اللاتينية منذ مائة عام مضت.. ولكن من ذلك الحين ونحن منخرطون هناك فى نوع جديد من الحروب.. فما هو الهدف منها..؟" يجيب: "ليس تحطيمَ مؤسسةٍ عسكرية.. أو القضاء على قدرةِ أمةٍ على مواجهةٍ عسكريةٍ خارج حدودها.. لا.. الغرض هو: إنْهاكُ وقَضْمُ إرادة الدولة المسْتَهْدَفة -ببطء ولكن بثبات- وفى النهاية تتمكّن من امتلاك السيطرة عليها والتحكُّم فيها.. لا تنسى أن الهدف الحقيقي هو إرغام العدوّ على تنفيذ إرادتك...!"
يُبَلْوِرُ "ماكْس مانْوارِنْج" الغاية النهائية للحرب فى هذه العبارة البسيطة الواضحة: "هدفنا هو التحكم والسيطرة.. أو الوصول إلى نقطة إخضاع عدوك لإرادتك".. ثم يكشف عن أهم سلاحين فى هذه الحرب وهما: قوة المال، والقدرات العقلية.. يقول: "ليست قوة النيران هى السلاح فى هذه الحرب.. ولكن قدراتنا العقلية هى السلاح الرئيس.. ثم تذكّروا: ما الذى أسقط جدار برلين..؟ الدبابت..؟ المدفعية..؟ الطيران..؟ لا.. المارْك الألماني هو الذى أسقط الجدار.. وهو الذى كسب الحرب..".
يصل الرجل إلى نقطة بالغة الأهمية حيث يبيّن للنخبة من مستمعيه أن [زعزعة الاستقرار] - بدلًا من سفك الدماء فى المعارك- أهون علينا وأقل تكلفة؛ لأن من ينفّذها لحسابنا هم [مواطنون من الدولة العدوّ..].. فبزعزعة الاستقرار وانتشار الفوضى، تضعف قدرة الدولة على التحكم فى الأوضاع، أو السيطرة الكاملة على بعض أجزاء من أراضيها.. ومن ثم تصبح الدولة فاشلة..
وينبِّه الرجل إلى نقطة هامة فيقول: "نحن عادة لا نستخدم مصطلح (الدولة الفاشلة) أبدًا فى خطابنا، كنوع من الدبلوماسية الواجبة، حتى لا نحرج أحدًا من أعواننا [الذين ينفٍّذون خططنا].." ولأن المنتج النهائي للحرب الناعمة هو دولة فاشلة.. يقول:
"فى أمريكا الوسطى وفى أماكن أخرى من العالم يوجد دول بها أجزء من أراضيها غير خاضعة لسلطة الدولة المركزية فمن الذى يتحكم فيها إذن..؟... إنها مجموعاتٌ من [مُواطنى الدولة] معادين للدولةِ، مقاتلين شرسين.. وأشرار... ومع مرور الوقت.. تكون قد خلَقْتَ دولةً فاشلة.. تستطيع أن تتدخّل أنت وتتحكم فيها.. بل يمكنك أن تذهب أبعد من هذا لتفعل بها ما تشاء.." و ضرب أمثلة بهاييتى ودول أخرى، أصبحت دول جريمة.. أو دول شعوبية.. أو طائفية..
وفى آخر محاضرته يؤكد ماكس مانوارنج عبارتين بالغتيْ الأهمية ينبغى إضافتهما الآن إلى قاموسك اللغويّ:
(١) "الحرب هي إكراه العدو على تنفيذ إرادتك" سواء بالقتل أو بالأساليب الناعمة..
(٢) "الدولة الفاشلة".. وهذه ليست حدثًا يقع، وإنما هى عملية تتم فى خطوات.. وتنفَّذُ ببطء وبهدوءٍ كافٍ.. سيذهب الناس إلى النوم –حسب كلمات هوجو شافيز- ثم إذا حان موعد اليقظة إذا هم موتى..!
و فى النهاية يعيد التأكيد لآخر مرة، ويذكِّر الحاضرين بأن الوسيلة الأساسية والناجعة فى الحرب غير المتكافئة هي "استخدام مواطنى دوْلة العدوّ" أداةً فعّالةً وأكيدةً لهزيمته فى عقر داره.. يقول: "إذا فعلت هذا بإتقان وأناةٍ ولمدة كافية فسيستيقظ عدوك ميِّتًا.."
أَعْلَمُ أن هوجو شافيز رئيس فنزويلا كان أول من تنبّه -بعبقريته ومن تجربته الخاصة مع الولايات المتحدة- إلى خطورة الحرب غير المتكافئة، وقد تحدث سنة ٢٠٠٥ لضباط الأكاديمية العسكرية فى كراكاس، وطلب منهم أن يتعلموا مواجهة هذا النوع الجديد من الحروب، وأن يطوّروا عقيدةَ قتال للتعامل معها.."
أقول: هذه هي الحرب التى تدور رحاها الآن بشراسةٍ بالغةٍ، وإصرارٍ مستميتٍ فى قلب مصر.. ولقد جرّب الأمريكيون والصهاينة محاولةً لتدمير سيطرة مصر الهشّة على سيناء.. ولكنها كانت محاولة غير ناضجة فى مخططاتهم.. وهذا لا ينفى أن إعادة المحاولة فى سيناء، أو فى أي بقعة أخرى من أرض مصر مسألة واردة.. فهل سيغمض المصريون أعينهم عن هذه الحرب الخفية، ويذهبون إلى فراشهم يغُطّون فى النوم.. ليستيقظوا أمواتًا..؟ أم سيكون لهم شأن آخر..؟!
لا بد من التطرّق إلى الشبكة العنكبوتية التى تضمّ الأطراف المنفّذة لمؤامرة إفشال الدولة فى مصر، وربطها بمراكز التخطيط والتمويل والتوجيه داخل مصر وخارجها: أما خارج مصر فهناك ثلاثة مراكز متآزرة هى؛ أمريكا وإسرائيل والإمارات.. وفى داخل مصر هناك جهات تقوم بالتمويل تضم رجال مال وأعمال، ومُلّاك الفضائيات الخاصة، من مخلفات عهد مبارك مثل ساويرس ومحمد الأمين وغيرهما.. هذه الشبكة المعقّدة لا بد لها من منسّق عالي الخبرة، فى الربط بين مراكز التخطيط والتمويل، وبين المنفّذين سواء كانوا أفرادًا أو مجموعات.. فى الأحزاب والإعلام، وجمعيات النشط المدنيّ..
تستطيع أن تضع على رأس المنسّقين السفيرة الأمريكية.. فمن حديثها هى للكونجرس الأمريكي، سمعنا لأول مرة أن الولايات المتحدة أنفقت بمصر 40 مليون دولار فى أسابيع قليلة بعد قيام الثورة المصرية، وذكرت مصادر أمريكية أخرى أن المبلغ الحقيقى يصل إلى 200 مليون دولار.
خبرتها السابقة، ومهاراتها تؤهّلها بجدارة لمهمة إدارة العملية فى مصر.. فمن أبرز خبراتها فى الحرب الناعمة لإفشال الدولة: ست سنوات قضتها فى أمريكا اللاتينية بين كولمبيا وإلْسلفادور، وثلاث سنوات فى باكستان تزعزع فيها الاستقرار والأمن إلى أبعد المدى، تمّ فيها: اغتيال بينظير بهوتو، وعمليات اغتيال أخرى، وشهدت تورّط الجيش الباكستاني فى حرب أهلية مع طالبان باكستان: ومع القبائل على الحدود الأفغانية.
سِجِلُّها فى ويكيليكس حافل بالإنجازات من هذا القبيل.. وتعتبر ثانى أقوى شخصية فى الخارجية الأمريكية بعد هيلارى كلينتون.. لذلك اختارها أوباما لمهمة شديدة التعقيد بالغة الأهمية فى مصر.. ولا بد أن يثير انتباه الغافلين أنه فى مستهل عملها بعد الثورة شهدت مصر نشاطًا قويًّا واسعًا للجمعيات الأمريكية غير الشرعية.. كشفت التحقيقات مع رجالها الذين قُدِّموا إلى المحاكمة فى القضية المشهورة باسْمِ قضية "التمويل الأجنبي" أن ثمةَ خرائط لتقسيم مصر إلى دويلات، كانت فى حوزتهم.. ولكن التدخل الأمريكي السريع، أجهض القضية، وأُغلقت صفحتها إلى الأبد..
كذلك لاحظنا مع الأزمات الأخيرة حدّةً غير معهودة، صاحبها اعتصامات واضطرابات متلاحقة افتعلتها قوى المعارضة متآزرة علنًا –ربما لأول مرة- مع الفلول، الذين جاءوا معهم بعناصر شرسة من البلطجية المسلحين، وترتب على ذلك سقوط قتلى، ومحاولات اقتحام القصر الجمهوريّ.. وحرق مقرات أحزاب وجماعات.. فى أثناء كل هذا كانت السفيرة فى نشاط متواصل ولقاءات مع قيادات المعارضة.. وتصريحات نارية من شفيق وقرينه خلفان، واستنجاد قيادات المعارضة بالقوى الأجنبية..
وبالمناسبة.. فإن سيناريو اقتحام قصر الاتحادية، هو صورة طبق الأصل من سيناريوهات جرت فى أمريكا اللاتينية للتخلص من رؤساء دول منتخبين، ولكن يرفضون الانصياع للسيطرة الأمريكية.. وقد تم التخلص منهم بحشد مظاهرات كبيرة: شغب واقتحام.. وانتزاع رأس الدولة من السلطة بالقوة.. كان شافيز هو الوحيد الذى نجا من السناريو الأمريكياني.. وكذلك نجا محمد مرسى بأعجوبة..
ولكن هذا ليس إلا فصلًا واحدًا من فصول الحرب غير المتكافئة" التى تدور رحاها على أرض مصر، بتخطيط أمريكي وتمويل متعدّد المصادر، تنفِّذه أيدٍ مصرية، وتُؤَجج نيرانه حناجر وأقلام مصرية فى إعلامنا وصحافتنا.. والغاية النهائية –أدركنا أو لم ندرك- هي إفشال السلطة الحاكمة وإسقاط الدولة وتفكيك مصر.. وإخضاعها مرة أخرى للإمبريالية الأمريكية الصهيونية...!
myades34@gail.com
No comments:
Post a Comment