http://aljazeera.net/pointofview/pages/616af9c7-0a0f-4d39-a117-95ef3163dc9e?GoogleStatID=1
حين تحل ذكرى الثورة المصرية في 25
يناير/كانون الثاني الحالي، يكون الرئيس محمد مرسي قد أمضى في منصبه سبعة أشهر فقط،
الأمر الذي لا يسوغ لنا أن نصدر حكما منصفا على تجربته، إلا أن ذلك لا يمنعنا من أن
نسجل بعض الملاحظات التي برزت خلال تلك الفترة.
(1)
أدري
أن كلمة "الإنصاف" لم تعد تلقى ترحيبا من جانب بعض العدميين، الذين يصرون على أن
الثورة أجهضت أو سرقت. وأن مصر انتكست حتى أصبحت أوضاعها أسوأ مما كانت عليه في
السابق، أو الأسوأ على مدى تاريخها. وعند هؤلاء فإن الهجاء وكيل السباب والشتائم هو
الموقف "الموضوعي" المقبول، وما عداه صار من تجليات الأخونة وأصداء الفاشية الدينية
التي يلوحون بها. وهذا اقتباس بسيط ومهذب من أدبيات خطاب شيطنة الآخر الذي صرنا
نطالعه كل يوم في العديد من وسائل الإعلام.
"أكثر
ما يدعو إلى الأسف أن السهام الملوثة
التي
يراد لها أن تستهدف السلطة القائمة يرتد أثرها على الثورة المصرية للحط
منها
وتشويهها
وليس على الرئيس وجماعته فقط
" |
أكثر
ما يدعو إلى الأسف أن أمثال تلك السهام الملوثة التي يراد لها أن تستهدف السلطة
القائمة يرتد أثرها على الثورة المصرية وليس على الرئيس وجماعته فقط. والمتابع لبعض
المطبوعات التي تصدر في العالم العربي يلاحظ حفاوتها الشديدة بمفردات ذلك الخطاب،
الذي يصدر في مصر لتصفية الحسابات مع الإخوان، لكنه يوظف في خارجها للحط من شأن
الثورة وتشويهها، من ثم لتحذير الجماهير العربية من التطلع إلى ذلك الطريق الذي لم
يجلب لمصر سوى الندامة والنحس، وقد عبرت عن ذلك إحدى الصحف المصرية هذا
الأسبوع.
الذين
يعممون ويوظفون خطاب الشيطنة الرائج عندنا لا ينتبهون غالبا إلى أن الحدث المصري
-الذي سارع إلى التقاط الشرارة من الثورة التونسية- يدشن تحولا تاريخيا ينتقل
بمقتضاه العالم العربي من مرحلة مقاومة الاستعمار إلى مرحلة أخرى شعارها مقاومة
الاستبداد والظلم الاجتماعي.
وهذا
التحول إذا كان قد تجلى في انتفاضات أسقطت بعض الأنظمة العربية، فإن تجلياته مشهودة
أيضا في بقية أقطار الوطن العربي، من أقصاه إلى أقصاه. وهي الأقطار التي تتعلق
أبصار شعوبها بالتجربة المصرية في حين أصابها تسونامي من الدعوة إلى التغيير، ترددت
أصداؤه قوية وملحة عبر مختلف وسائل التواصل الاجتماعي وغيرها من قنوات التعبير
الأخرى، وتعاملت معها السلطات المحلية بدرجات متفاوتة من اللين
والشدة.
(2)
لن
نتوقف أمام العدميين الذين يصرون على تيئيسنا وتسويد الصورة أمام أعيننا، لكن
الإنصاف الحقيقي يفرض علينا أن نرى الصورة من جوانبها المختلفة، الإيجابي منها
والسلبي. في الشق الأول لا نكاد نجد إنجازا مهما على صعيد السياسة الخارجية إلا في
الموقف إزاء القضية الفلسطينية، حيث لا ينكر أحد أن مصر في الوقت الراهن خرجت من
التحالف مع إسرائيل ضد المقاومة الفلسطينية، وصار موقفها من فصائل المقاومة أكثر
استقامة ونزاهة.
أما
في الشأن الداخلي فبوسعنا أن نرصد إيجابيات عدة، سواء على صعيد الحريات العامة التي
علا سقفها حتى بدت بغير سقف في أحيان كثيرة، تشهد بذلك الممارسات التي تحفل بها
الساحة الإعلامية، والكيانات التي تظهر كل يوم في الساحة السياسية، والمظاهرات التي
ذهبت بعيدا في أهدافها، حتى لم تستثنِ المحكمة الدستورية ومدينة الإنتاج الإعلامي
ومقر رئاسة الجمهورية، رغم أنني أرفض بعض تلك الممارسات، ولا أؤيد التجاوزات التي
وقعت خلال بعضها الآخر.
كما
أنني أتفهم موقف الذين ضاقت صدورهم بها، لأن الأمر كان جديدا عليهم وصادما لهم، إلا
أن كل ذلك جاء دالا على أن ثمة روحا جديدة بدأت تسري في مصر، ربما احتاجت إلى بعض
الوقت لكي تتصف بالنضج والرشد.
على
صعيد آخر، أعترف بأن في نفسي شيئا يتحفظ على كثرة الإضرابات والوقفات الاحتجاجية،
وعمليات قطع الطرق التي يعمد إليها الغاضبون من الأهالي بين الحين والآخر، إلا أن
ثمة وجها إيجابيا لهذا السلوك يتمثل في الجرأة التي واتت الجميع. وجعلت الناس
يصرُّون على رفع أصواتهم ونيل حقوقهم، وأقنعت كل مواطن بأنه شريك أصيل في الوطن
وليس جزءا من القطيع.
"
في الجزء المليء من الكوب لا يفوتنا أن نذكر إنجازين مهمين، أحدهما يتمثل في إنهاء حكم المجلس العسكري, أما الثاني فيتمثل في إنهاء الدور السياسي للشرطة، وحصر مهمتها في حماية الأمن الداخلي " |
ورغم
الأضرار الاقتصادية التي ترتبت على ذلك وهى ليست هينة، فإن التحدي الذي نواجهه في
الوقت الراهن صار يتمثل في كيفية الوفاء بحقوق العاملين وإنصافهم، وفي الوقت ذاته
ضمان استمرار واستقرار الوحدات الإنتاجية.
في
الجزء المليء من الكوب لا يفوتنا أن نذكر إنجازين مهمين حدثا خلال الأشهر السبعة
الماضية، أحدهما يتمثل في إنهاء حكم المجلس العسكري وإحالة قيادته إلى التقاعد. بما
استصحبه ذلك من إعادة الجيش إلى ثكناته لكى يستمر في أداء واجبه الوطني خارج
السياسة. أما الإنجاز الثاني فيتمثل في إنهاء الدور السياسي للشرطة، وحصر مهمتها في
حماية الأمن الداخلي، بعيدا عن استهداف أو قمع قوى سياسية دون غيرها. وإن ظل تحفظنا
قائما على الأساليب التي لا تزال تستخدمها الشرطة متأثرة بمدرسة القمع
القديمة.
بعد
إجراء الانتخابات الرئاسية فإن الحفاظ على مجلس الشورى المنتخب، وتخويله سلطة إصدار
التشريعات بصفة استثنائية إلى حين انتخاب مجلس النواب الجديد، ثم الانتهاء من إعداد
الدستور بواسطة لجنته التأسيسية، والاستفتاء عليه الذي انتهى بتأييد الأغلبية
النسبية له، هذه الخطوات حتى إذا اختلف الرأي حولها، فإن أحدا لا ينكر أنها شكلت
مقاربات باتجاه إقامة مؤسسات الدولة، التي كان النظام السابق قد عمل على تقزيمها
وتهميشها.
(3)
وفي
المقابل، ظهرت في الساحة المصرية شقوق وسلبيات كانت سَحْبا من رصيد التجربة وليست
إضافة إليها. وقد برزت تلك السلبيات في ساحات عدة، والأمثلة على ذلك متعددة، وفي
مقدمتها ما يلى:
-
إننا خسرنا التوافق الوطني، إذ انقسمت النخبة التي توزعت على فصيلين أو معسكرين،
أحدهما للقوى العلمانية والليبرالية واليسارية الذين قدموا أنفسهم بحسبانهم يمثلون
التيار المدني، والثاني للتيارات والتجمعات الإسلامية التي صنفت باعتبارها قوى
دينية. وإذا كان الانقسام بحد ذاته أمرا مؤسفا، فإن ما ضاعف الأسف أنه قام على أساس
الهوية، وليس على أساس الرؤية أو الاجتهاد السياسي.
-
سواء لأن الرئيس مرسي لم يقم بما عليه في تحقيق الائتلاف المنشود مع القوى الوطنية
الأخرى، أو لأن ممثلي تلك القوى سعوا إلى محاولة حصاره وتوريطه في تحمل المسؤولية
ليحملها وحده، هو وجماعته وحلفاؤه من السلفيين، فالشاهد أن الطرفين لم ينجحا في
اختبار التوافق. ولا أتردد في القول إن مسؤولية الرئيس أكبر في هذا الصدد، لأن
موقعه يسمح له بالدخول إلى التوافق في أكثر من باب.
-
إضافة إلى ما سبق، ثمة علامات استفهام حول الكيفية التي صدرت بها قرارات سياسية
مهمة عن رئاسة الجمهورية، الأمر الذي أثار مستشاريه بمن فيهم نائب الرئيس ذاته، وهو
ما أدى إلى انفضاض بعض المستشارين وممثلي القوى الوطنية المستقلة من حول الرئيس.
فخسر بذلك أصدقاءه، فضلا عن معارضيه، الأمر الذي أحدث فجوة بينه وبين المحيط
السياسي. حتى بدا الدكتور مرسي وكأنه رئيس لفئة من المصريين وليس
كلهم.
"
لم ينجح الرئيس مرسي ولا حكومته في التواصل مع المجتمع الذى كان ينبغي أن يصارح بحقيقة ما يجرى أولا بأول، على الأقل حتى لا يفاجأ ولا يضيق ذرعا بالقرارات التي تصدر " |
-
لم ينجح الرئيس مرسي ولا حكومته في التواصل مع المجتمع الذي كان ينبغي أن يصارح
بحقيقة ما يجري أولا بأول، على الأقل حتى لا يفاجأ ولا يضيق ذرعا بالقرارات التي
تصدر، خصوصا ما تعلق منها بإجراءات التقشف وارتفاع الأسعار. وللأسف فإن رصيد
التقاطع (مع القضاء والأقباط مثلا) كان أكبر وأوفر من رصيد
التواصل.
-
اتسمت بعض الخطى بعدم التوفيق (صياغة الإعلان الدستوري الشهير وطريقة إبعاد النائب
العام مثلا)، والتردد والارتجال في خطى أخرى (زيادة الأسعار ثم إلغاء القرار بعد
ساعات من إعلانه). وهو ما أثار علامات استفهام حائرة حول كفاءة الطاقم المحيط
بالرئيس، خصوصا مستشاريه السياسيين.
-
ظهور السلفيين اللافت للنظر أفاد وأضر في ذات الوقت. ويساورني شك في أن الضرر فيه
كان أكثر من الفائدة. هو أفاد من حيث إنه أظهر على السطح ما كان يتحرك بعيدا عن
الأعين، فرأينا فيه ما لم يكن متاحا لنا أن نراه من قبل. أما الضرر فيه فراجع إلى
أن خروجهم كان مفاجئا ولم يكونوا مستعدين أو مؤهلين له. فصدرت عنهم آراء وتحاربات
شوهت التجربة وأساءت إليها. ونسبت تلك الإساءات ليس إلى أصحابها، ولكن إلى مجمل
التوجه الإسلامي، ومن ثم فإنها استخدمت كفزاعة خوفت كثيرين وروعتهم، ليس بين
الأقباط فحسب ولكن بين المسلمين أيضا.
وإذا
قال قائل إن الترويع راجع إلى الاصطياد من جانب بعض وسائل الإعلام فلن أختلف معه،
لكن أضيف أن أداءهم هو الذي وفر لها الذرائع التي استخدمتها في "الترويع
والتخويف".
-
أما "أم السلبيات" فهي أن إدارة الرئيس مرسي لم تنجح في أن تقدم إلينا حتى الآن على
الأقل رؤية أو تصورا واضحا للمستقبل على مختلف الأصعدة، خصوصا في السياسة
الاقتصادية. حتى بدت وكأنها لا تحمل جديدا سوى أنها إدارة نظيفة وغير
مستبدة.
وإذا
كانت قد قدمت أداء أكثر نزاهة في الشأن الفلسطيني فإن ذلك يحمد لها لا ريب، إلا
أنني أرجو ألا تكون قد اضطرت إلى ذلك لكي تخرج من عباءة "الكنز الإستراتيجي"
لإسرائيل، الذي يعد من صميم الحرام السياسي.
-
لا نستطيع أن نطوي صفحة السلبيات دون أن نشير إلى بروز دور فلول النظام السابق،
ومحاولتهم اكتساب الشرعية سواء من خلال تأسيس حزب لهم، أو من خلال تحالف بعض
المعارضين العلمانيين معهم لمواجهة الإخوان باعتبارهم خصما مشتركا
للطرفين.
(4)
أدري
أننا نتحدث عن تركة ثلاثين سنة حولت مصر إلى أنقاض لم ينافس الخراب الاقتصادي فيها
سوى الخراب السياسي والاجتماعي، ولا أستطيع أن أتجاهل حقيقة أن الرئيس محمد مرسي
تسلم منصبه منذ سبعة أشهر فقط، ولا يزال أمامه أكثر من ٤٠ شهرا أخرى لتنتهي مدته،
ولا أنسى مقولة الرئيس البرتغالي السابق جورج سامبايو التي ذكر فيها أن بلاده
احتاجت إلى سبع سنوات لوضع القطار على السكة وبناء الدولة بشكل
صحي.
"
أزعم أن أداء الرئيس مرسي والحكومة يتسم برتابة محيرة, وألاحظ أنهم يتصرفون بهدوء شديد وأعصاب باردة، كأن أوضاعنا مستقرة وأمورنا على ما يرام " |
ورغم
أن ما أوردته هو مجرد ملاحظات وليست أحكاما، فإننا ينبغي أن نعذر إذا رفعنا سقف
توقعاتنا طالما أن الرئيس وحكومته لم يصارحونا بحقائق التركة التي تسلموها. ولم
يخبرونا بالأمد الذي علينا أن نتوقعه لكي نضع قطارنا على السكة. ولم يحدثونا إلا
مضطرين مؤخرا، حين استحكمت المشكلة الاقتصادية وسرت شائعات تحدثت عن أن مصر على وشك
الإفلاس. وهو ما تم نفيه رسميا، إلا أننا صرنا نرقب الجنيه المصري، وهو يترنح هذه
الأيام ولا يزال مصيره مجهولا.
لا
يستطيع مثلي أن يقترح مخرجا من عنق الزجاجة الذي صرنا إليه. لكنني أفهم أن الظروف
الاستثنائية ينبغي أن تواجه بإجراءات استثنائية، باعتبار أن الحديد لا يفله إلا
الحديد. إلا أنني أزعم أن أداء الرئيس مرسي والحكومة -الذي نراه على الأقل- يتسم
برتابة محيرة في مواجهة العواصف التي تحيط بنا. إذ ألاحظ أنهم يتصرفون بهدوء شديد
وأعصاب باردة، كأن أوضاعنا مستقرة وأمورنا على خير ما يرام، وكأن ما يعترضنا مجرد
سُحُبٍ في الأفق سرعان ما تتبدد وتنجلي بقدرة قادر.
لقد
تمنيت أن تبدأ السنة الثالثة من عمر الثورة بخطوة شجاعة يدعو فيها الرئيس مرسي إلى
إبرام عقد اجتماعي جديد مع مختلف القوى السياسية، يكون إعلانا عن الانتقال إلى طور
جديد في مسيرة العمل الوطني يقرب إلى أذهاننا فكرة وضع القطار على السكة. ليس لأجل
مصر وحدها، ولكن لأجل الأمة العربية بأسرها.
No comments:
Post a Comment