اليوم السابع | خالد صلاح يكتب.. وهم اسمه «إسقاط النظام السياسى الإسلامى بالقوة»
◄بعض القوى المدنية تعيش خرافة قدرتها على إقصاء التيار الإسلامى من الحكم بالحشد والتعبئة الثورية دون قراءة للتاريخ ودون عظة من قدرة الإسلاميين على النمو فى ظل أنظمة عسكرية مستبدة
◄لا بديل عن الوصول إلى دولة الحداثة والتقدم والمدنية إلا عبر إعادة صياغة خطاب التيار الليبرالى وعدم وضع كل الإسلاميين فى سلة واحدة والفصل بين التيار الوسطى والتيار المتشدد واعتماد الآليات الديمقراطية كوسيلة وحيدة لتداول السلطة
فكرت كثيرا قبل أن أكتب هذه الكلمات، إذ أن الاستقطاب الحاد الذى تعيشه مصر الآن لم يعد يعترف بأن يكون لأى صاحب رأى فرصة للبحث عن حدود الاتفاق والاختلاف بين القوى السياسية المتخاصمة، صار المطلوب الآن أن تكون إما (مع) وإما (ضد) فى كل شىء وفى أى شىء، ولا سبيل لأن تتفق فى بعض القضايا وتختلف فى أخرى، ولا مجال لأن تختلف مع تيار سياسى فى قضايا فكرية أو اقتصادية أو سياسية ثم تتفق معه فى أولويات وطنية أخرى ضرورية وشديدة الإلحاح، المناخ الآن يحفز على الانقسام ويمجد الروح الثأرية ويميل إلى منطق المعسكر والقبيلة والطائفة (إسلاميون كانوا أو ليبراليون) ولا تتحمس القوى الفاعلة فى بلادنا الآن أو حتى تتعاطف مع المنطق الداعى للتفاهم والوصول إلى حلول وسط لتكون مصر ومستقبلها فى المرتبة الأولى، لا أن تكون الأجندات الخاصة والمصالح الحزبية مقدمة على المصالح الوطنية.
ورغم هذا الشتات والعبث فى التصنيف أو التصنيف المضاد فإنه لا يروق لى أن ألتزم الصمت فى قضية عاجلة تتعلق بالطريقة التى تفكر بها بعض القوى المدنية فى صراعها السياسى مع التيار الإسلامى سواء الجناح المستقر فى السلطة الآن أو الجناح الذى لا يزال يحلم بها فى المستقبل، وقد يؤسفنى أن بعض القوى المدنية فى مصر تعيش خرافة نادرة ومزعجة ومحبطة إذ تتوهم فى نفسها القدرة على الإطاحة بالتيار الإسلامى من السلطة وإسقاط النظام المؤسس على انتخابات حرة من خلال استدعاء النموذج الثورى الذى أسقط نظام مبارك فى يناير 2011، عبر التعبئة والحشد الشعبى والمظاهرات الغاضبة وحدها، وتستثمر بعض هذه القوى الاقتراب من الذكرى الثانية لثورة يناير لتؤهل جماهيرها لمواجهة شعبية جديدة بين الشارع والسلطة، وبين المعتصمين فى الميدان ورأس النظام من جديد.
هذا التصور بأن بعض القوى المدنية قادرة على استعادة نموذج إسقاط النظام على النحو الذى جرى مع نظام مبارك يدفعنى إلى الشك فى القدرات السياسية والمعرفة التاريخية لمن يقودون هذه الدعوة بإسقاط النظام من الشارع، صحيح أننى من موقعى المهنى أخاصم بعضا من القرارات الصادرة عن الرئاسة وأخاصم الكثير من المواقف السياسية والإعلامية لجماعة الإخوان، وأعارض النهج المخالف لأخلاق الإسلام الذى يتخذه بعض دعاة الفضائيات، وأخشى على مستقبل مصر من أن يكون خاضعا لقوة واحدة، أيا كانت هذه القوة، لكن الصحيح أيضا أننى لا أستطيع أن أتفهم أن نبنى مصر على أساس الحشد والتعبئة خارج صناديق الانتخابات إلى الأبد، ولا يمكننى أن أتعاطف مع هذا المفهوم الضيق الذى يتوهم فيه البعض القدرة على إطاحة (الأيديولوجيا الإسلامية السياسية) بهذه السهولة، بل وبهذه السذاجة.
أنت إذن لا تعرف معنى الأيديولجية الدينية فى هذه البلاد، ولا تفهم تاريخ التيار السياسى الإسلامى، فكيف لا يمكنك قراءة حصاد هذه السنوات الطويلة التى عجزت فيها أنظمة سياسية قمعية من أن تضرب هذا التيار أو تحاصر شعبيته فى الشارع أو وجوده بين الناس، كل هذا البطش الأمنى والعسكرى والسياسى قبل وبعد ثورة يوليو 1952، وكل هذه المحاكمات العسكرية والاعتقالات والمطاردات والضربات الأمنية لم تفلح فى حصار أى من الجماعات الإسلامية الوسطية منها أو المتشددة، كان اليقين بين قطاعات عريضة فى الشارع أن حلم العدالة والتقدم والرفاهية والكرامة لا يمكن أن يتأتى إلا عبر تطبيق صحيح الإسلام، ومن ثم كان هذا التيار يزداد قوة رغم البطش، وكانت الأنظمة الباطشة تزداد ضعفا دون أن تؤسس لرؤية فكرية (إسلامية معاصرة) تواجه بها المشروع الذى يحمله التيار الدينى على تنوعه واختلافه.
ومن ثم فإن الحديث هنا عن إسقاط التيار الإسلامى بالكامل، أو الإطاحة به خارج منظومة السلطة كلية أو قهره إلى الحد الذى يجبر فيه على تقديم (تنازلات أيديولوجية مؤلمة) ليس سوى قفزة نحو الوهم، وسقوط فى محظور تاريخى وسياسى وفكرى لن يسمن أو يغنى من جوع.
هذا الوهم خارج عن حدود التصورات المنطقية، ويضع البلاد على حافة خطر جامح غير مأمون العواقب، ويؤسس للمنطق الانقلابى أكثر مما يدعم ويعزز التداول السلمى للسلطة، وهذه الخرافة بأن الإسلام السياسى يمكن أن يسقط عبر المظاهرات والعنف ليس سوى مغامرة ساذجة لهواة لا يجيدون قراءة التاريخ وليس لديهم حسابات حقيقية لما تعنيه الفوضى الشاملة، أو الإقصاء المؤسس على العنف، أو الانقلاب المبنى على التعبئة العامة وتعطيل البلاد.
لا يعنى هذا أن ننصاع طوعا لأى نوع من الاستبداد الذى تميل إليه بعض القوى الدينية، ولا يجب أن تفهم هنا أن القوى المدنية عليها أن ترفع الراية البيضاء فى مواجهة تيار واحد، لا على العكس تماما، لكن المعنى هو أن ندرس ما نحن فيه بعناية، ونفهم مفردات التكوين الثقافى والسياسى والحضارى للمجتمع المصرى، فما نريده الآن هو ثورة ثقافية حقيقية تعيد بناء المفاهيم الصحيحة لهذا الدين، وترسخ مكانة الدين فى المجتمع وفى العمل السياسى على أسس حضارية لا تخاصم الحداثة ولا تنزع إلى العنف ولا تحتكر سلطان الأخلاق وفق تفاسير حزبية ضيقة.
والمعنى أيضا أن يتأسس هذا النضال المدنى على أساس يحترم المنطق الديمقراطى فى المواجهة، فالإخوان المسلمون التزموا البعد عن العنف على الأقل طوال السنوات الثلاثين لحكم مبارك، وتفرغوا للعب بنفس الآليات الديمقراطية التى أقرها الدستور واحترمها العالم، ومن ثم حصدوا نتائج هذه السنوات عندما صارت الساحة مفتوحة لتداول السلطة عبر الصناديق الانتخابية، ولا أرى بديلا أمام القوى المدنية سوى إدراك هذه الحقائق على أرض الواقع، وإعادة بناء حساباتها فى المواجهة نحو دولة حضارية من خلال العمل المباشر فى الشارع أولا، وإعادة بناء خطابها السياسى لاستيعاب المرحلة الجديدة التى تعيشها مصر، وعدم وضع كل الإسلاميين فى سلة واحدة لكى تتمكن من بناء خريطة لتحالفات حقيقية مع التيارات الأكثر وسطية، والأقرب فهما لما نحلم به جميعا من بناء دولة عادلة تحترم القانون وتتوجه نحو الحداثة دون أن تصطدم مع قيم هذه الأمة، تلك القيم التى لم يقهرها حاكم، ولم يبطش بها العسكر، أو تنزعها من القلوب كل التجارب الاستعمارية فى بلادنا.
لنحتفل بثورة يناير إذن فى موعدها الخالد، ولنسحب فتيل الأزمة المرتقبة من الشارع فى بلادنا، ونعيد ترتيب أولوياتنا على هذا النحو ووفق هذا الفهم.
والله أعلم.
مصر من وراء القصد.
No comments:
Post a Comment