محمد شكر
السبت ٢ يونيو ۲۰۱۲
قد يذكر التاريخ لاحقا أن هذا الأسبوع الذى عشناه منذ إعلان نتائج المرحلة الأولى للإنتخابات الرئاسية وما سيليه من أسابيع كانت من أخصب الفترات حراكا وأسرعها إيقاعا فى تاريخ مصر، والتى تجلت فيها المشاركة الشعبية بشكل غير مسبوق فى حياة المصريين. إن ما يكتب أو يقال اليوم قد يصبح كلاما لاوزن له خارجا عن السياق بعد يومين فقط. ومع إدراكى لهذا أكتب هذا المقال معترفا بأن مفاجأة ما قد تحدث غدا - مثل إنفجار ثورة ثانية فى الميادين بسبب تبرئة القضاء اليوم للمتهمين فى قتل المتظاهرين أثناء الثورة - مما يمكن أن يقضى على ما تبقى من العملية الإنتخابية ويجعل الآراء الواردة هنا وقد أصبحت فى خبر كان.
لكن بفرض إستمرارية هذه العملية ونحن الآن على مقربة أيام من التصويت على المرشحين فى المرحلة الثانية أود أن أطرح بدائل الإختيارات وسيناريوهات الإحتمالات التى يمكن أن تساعد الناخب على تحديد إتجاه التصويت خلال تلك المعادلة الثنائية المهترئة التي وضعتها أمامنا نتيجة المرحلة الأولى (العسكر أم الإخوان).
الأفكار الواردة هنا هى خلاصة رؤيتى حتى الآن وكثير منها تبلور نتيجة مشاركات من أصدقاء أكاديميين مقيمين بمصر وخارجها، وأخص بالذكر دون الإفصاح عن الإسم صديقا متفتحا يقيم حاليا بأميركا. هذا العرض التحليلى قد يكون مفيدا للقارئ بشرط أن يوافق بداية على فرضين أساسيين يستند إليهما التحليل.
أولاهما أن الإنتخابات لن تكون مزورة. قد تحدث تحدث بعض الأخطاء والتجاوزات هنا أو هناك لكنها لن تقلب النتيجة النهائية رأسا على عقب. لقد تجاوزت مصر بالفعل مرحلة التزوير الممنهج للإنتخابات - وهذه من أكبر مكاسب الثورة. وأستبعد هنا تماما الحديث المتكرر عن "طبخ" النتيجة لصالح المرشح المفضل للمجلس العسكرى والقوى الدولية التى تريد إعادة مصر تحت عباءتها (أميركا، إسرائيل وبعض الأنظمة العربية البترولية). صحيح أنه يمكن توجيه النتيجة بالطرق المختلفة لصالح الفريق شفيق، ولن يكون هذا صعبا في ظل "الإخوانوفوبيا" التي ساهمت فيها إختيارات الإخوان أنفسهم وخطابهم السياسي، لكن الصحيح أيضا أن التأثير على الناخبين بإستخدام المال والنفوذ وارد فى إنتخابات كل الدول وهو بالتأكيد غير التزوير.
وثانيهما أن الفريق أحمد شفيق - والذى صُدمت جموع المصريين بوصوله للمرحلة النهائية على حساب مرشحى الثورة - هو بالفعل مرشح الفلول الذى سيحاول إعادة نهج النظام البائد الذى قامت الثورة لتطهير البلاد منه للأبد. فالتحليل الوارد هنا إذن قد لا يكون موضوعيا من وجهة نظر بعض مؤيدى الفريق شفيق. وأقول لهؤلاء أن المسافة الفكرية بيننا أبعد من أن تسمح هذه الرسالة أو المساحة الزمنية المتاحة قبل الإنتخابات فى أن يؤثر أحدنا فى قناعات الآخر.
أبدأ بإختيار الفريق شفيق والنتائج المترتبة على نجاحه كما أتصورها ثم أنتقل للبدائل التصويتية الأخرى وهى ثلاثة: عدم المشاركة فى الإنتخابات، أو إبطال الصوت لإظهار الإحتجاج، أو التصويت لمرشح الإخوان سواء عن إقتناع أو عن حسابات أخف الضررين. كل بديل سأقدم بخصوصه تحليل لسيناريوهين: أحدهما لإحتمال نجاح الدكتور مرسى والآخر لإحتمال نجاح الفريق شفيق.
فى حالة إختيار الفريق شفيق ونجاحه سيكون الخطر محيقا بمصر كلها وبشكل خاص بجماعة الإخوان المسلمين (الذين لعبوا فعلا بالنار). سيتم حل مجلس الشعب على يد شفيق - وهو من سلطة الرئيس حسب الدستور الحالى - وستكون هذه طعنة للجماعة تقضى على كل ما حققته من "مكاسب" خلال الفترة الإنتقالية. لكن الخطر سيحيق بمصر لأن شفيق لن يستطيع إعادة الأمن لمصر كما يتصوره مؤيدوه. لماذا؟ لأن جهاز الشرطة لن يطيعه في قمع المتظاهرين، فالشرطة اليوم في إطار تحول عقائدي واضح لكى تقصر دورها على الأمن الجنائي ولن تقبل مستقبلا أن تدفع ثمن سمعتها للسياسيين.
ولكن في المقابل سوف يستخدم شفيق البلطجية في قمع المظاهرات وهنا سيكون رد الفعل من الثوار بمزيد من الثورة. صحيح أن ثورتهم قد تبدأ غير مؤثرة نسبيا عقب نتيجة الإنتخابات الديموقراطية لكنها ستصبح غالبا هادرة فى شهر سبتمبر بعد رمضان. وأتوقع أن تراق كثير من الدماء خلال هذه الثورة الثانية لكنها إن نجحت فستزيل النظام البائد إلى غير رجعة وسيَمْثل شفيق وأعوانه أمام محاكم ثورية. فأى أمن سيحققه شفيق إزاء هذا السيناريو المحتمل؟ شفيق لن يحقق أمنا ولن يستطيع حتى إعادة إنتاج النظام السابق كما يتخوف (أو يتمنى) البعض. فى مقابل هذا الكلام قد يقول قائل إن نجاح شفيق قد يؤثر سلباً على معنويات المصريين ويعيدهم للسلبية ويبعدهم عن طريق التغيير الثوري. لكنى لا أرى ذلك مطلقا. لقد خرج المارد المصرى أخيرا من القمقم! (وهذه فرضية أخرى إذا إختلف معى القارئ فيها فسيصعب بيننا اللقاء).
أنتقل للبدائل التصويتية حسب الترتيب الوارد أعلاه. الإختيار الأول بعدم المشاركة فى الإنتخابات هو موقف سلبى لا يستحق التعليق عليه بأكثر من ذلك. وربما كان التصويت لشفيق عن إقتناع موقفا فكريا أجدر منه بالإحترام.
الإختيار الثانى بإبطال الصوت هو موقف إيجابى من هؤلاء الذين رأوا أن العسكر والإخوان ألعن من بعض لكنهم يريدون ضمنيا عقاب الإخوان وقد يكون لهم أسبابهم التى تتلخص فى أن الحملة التى أدارها الإخوان قد أفسدت وفتتت من نسيج مصر الثورة وبالتالى لا يجب مكافأتهم على ذلك، أو أن المقومات الشخصية للدكتور مرسى لاتؤهله لأن يكون رئيسا لمصر وخصوصا مصر "الثورة". إبطال الصوت قد يكون أيضا ردا مناسبا على تعنت الإخوان فى التفاوض مع القوى الثورية لصياغة ترتيب تشاركى لحكم مصر (وهو ما يجرى وقت كتابة هذا المقال). ربما لا يزال الإخوان لا يدركون عظم المأزق الذى وضعوا فيه مصر بأكملها.
ما الذى يمكن أن يحدث إذا أبطلت أغلبية القوى المدنية أصواتها ثم نجح شفيق (وهذا وارد جدا)؟ سنكون أمام أعوام من التلاوم وتوجيه الإتهام من القوى "المدنية" للإخوان بتضييع الثورة ومن الإخوان للقوى المدنية بتقديم مصالحها ورفضها للإخوان الذين اختارتهم "الأكثرية"، وسيتمسك كل فريق بروايته ويعود شباب الإخوان للإرتماء في حضن التنظيم والإصطفاف وراء قياداته العاجزة ويستغل نظام شفيق الفرصة لإحكام سيطرته على البلاد وتتسع الشُقّة بين القوى الوطنية. لكن فى المقابل فإن إبطال الأصوات بأغلبية كبيرة مع نجاح شفيق سيسحب الشرعية من نتيجة الإنتخابات ويُعِدّ الشعب لممارسة عصيان مدنى يستند إلى من أبطلوا أصواتهم وإتفقوا سلفا على عبثية الإنتخابات.
وما الذى يمكن أن يحدث إذا أبطلت أغلبية القوى المدنية أصواتها ثم نجح الإخوان؟ سيكون هذا أسوأ ما ترجوه هذه القوى. عندئذ سيعتبر الإخوان وكل من صوتوا لهم أنهم حازوا على أغلبية شعبية شرعية تسمح لهم بالإنفراد بالتشريع والتنفيذ والحكم وتأسيسية الدستور. سيعتبروا أنهم وحدهم من أنقذ الثورة وأن القوى العلمانية التى أبطلت أصواتها قد تقاعست وسيعطيهم هذا كل المبررات لفرض ما يشاءون من رؤى سياسية بحجة شرعية الإنتخابات. سينتصر الإخوان وستنشئ القوى المنتصرة نظاما أكثر انحيازا للعنصر الفاشي في الدين من الجانب التنويري فيه، وستخسر القوى المدنية ومصر بأكملها عقدا من الزمان حتى يعتدل ميزان القوى مرة أخرى.
ثم نأتى للإختيار الثالث وهو التصويت لصالح الدكتور مرسى مرشح الإخوان. هذا بالطبع سيكون إختيار مؤيديه لكن ماذا عن إختياره من قِبَلْ القوى الوطنية "المدنية"؟ فى هذه الحالة ستكون درجة نجاحه محتملة إلى حد كبير (أعلى من إحتمال نجاحه فى حالتى المقاطعة أو إبطال الصوت). في هذا السيناريو نعود إلى مشهد ما قبل إنتخابات الرئاسة ونجد أنفسنا بإزاء حالة الشلل التي إنتشرت منذ إندلاع الثورة: مؤسسات الدولة في يد التيار الديني مع وجود قوى معارضة قوية محتفظة بصحتها وصاحبة فضل في هذا الإنتصار.
ما الذى يمكن أن يحدث إذا تجمعت القوى المدنية لتأييد الدكتور مرسى ثم نجح شفيق؟ هنا نكون قد عدنا للحاجة إلى حالة ثورية ثانية خصوصا مع خلفية الرفض لحكم تبرئة علاء وجمال مبارك وكل من كانوا متهمين بقتل الثوار فى الميدان. هنا سيصبح رد الفعل "بسم الله الرحمن الرحيم - الإجابة فى التحرير". سيكون من السهل إجتماع الفصائل الوطنية بما فيهم الإخوان، لأن الجميع قد تقاربوا وتعاونوا على التصويت لرفض الفلول معا. هنا يمكن أن ينزل الجميع إلى الميدان متوحدين متجاوزين الإستقطاب الحالي ومنصهرين فى حالة ثقة أعلى حتى مما كانت عليه يوم 28 يناير من العام الماضى بعد أن مر عام ونصف تعلمنا فيه من أخطائنا وعرف كل منا الآخر. هذا السيناريو لا يخلو من مخاطرة لكنه يطرح فرصة البدء من جديد على بصيرة أرشد و"فرشة" أنظف، فهو بالتالى يستحق المخاطرة.
وما الذى يمكن أن يحدث إذا تجمعت القوى المدنية لتأييد الدكتور مرسى ثم نجح بالفعل الدكتور مرسى؟ هنا سيتحقق مكسب مهم وهو تراخي قبضة العسكر عن السلطة وإنتقالهم من خانة الفعل إلى خانة رد الفعل الذي يتوازن مع قوةالإخوان. سنكون بإزاء نظام إصلاحي محافظ قد تختلف معه القوى المدنية جذريا ولكن الكل (بإستثناء الفلول طبعا) سيكونوا شركاء معه في الشرعية ويمكنهم دوما مطالبته بالإنتصار للثورة التي يتظلل بردائها وبنصره لها. لن يستطيع الإخوان حينئذ تجاهل هذا وسيعلمون ويعلم الناس أن من حشد وشارك في هذا الإنقاذ للثورة ليس فصيلا واحدا وبالتالي ستحتفظ المعارضة بقدرتها على المعارضة الفعالة والمساومة على شكل الدولة.
هذا السيناريو ليس أسوأ مما نحن فيه الآن وقد طورت كثير من القوى أدوات تعاملها معه بنجاح يشهد عليه التراجع الواضح في شعبية القوى الإخوانية فى الجولة الإنتخابية الأخيرة، وبالتالي ففي المدى المنظور يمكن تصور أن تنجح القوى الثورية في تجاوز هذه الكبوة مع توقع إستمالة وتمكين الأطراف الأكثر ثورية داخل القوى الإخوانية (شباب الإخوان) على الخروج من عباءة مرشدهم كرد فعل على الأداء الإنتخابي الهزيل الذي تسبب فيه إتباع سياسات مراوغة خصمت من رصيد الإخوان فى الشارع المصرى.
وأخيرا أتوجه بكلمة لكل من سيختار شفيق لمجرد التشفى والنكاية فى الإخوان. شفيق قد يحقق الأمن إذا كان الأمن يعنى الزج بالإخوان فى السجون وتخليص مصر من حكم "دينى" متوقع. لكن هنا يجب التأنى فى الحكم وعدم المبالغة فى خطر الإخوان وهو ما أشرت إليه بالـ "‘إخوانوفوبيا". كما يجب الإنتباه إلى المخاطرةالشديدة إذا أتى شفيق بأغلبية كبيرة تعطى له شرعية التصرف. ستكون المواجهة مع الطليعة الثورية سريعة وقاسية لأنه سيستعين بالجيش فى قمع الثورة. والأدهى من ذلك أن الشعب سينقسم إنقساما حادا وقد تصبح مصر على شفا حرب أهلية لاقدر الله، وساعتها سيكتوى بنارها الجميع.
ألا ترون معى أن الإختيار هذه المرة مسئولية عظمى تستلزم إعادة النظر مرات ومرات؟ نسأل الله تعالى أن يحمى مصر ويجنب أهلها الطيبين شر الفتنة.
محمد شكر
تورونتو - السبت ٢ يونيو ۲۰۱۲
No comments:
Post a Comment