أخذوا يتقلبون على جنوبهم يمينا وشمالاً، الأيدى ترتفع بلا وعى ثم تسقط فوق أحد مواضع الجسد النائم بلا إرادة.
كان تيار اليقظة قد بدأ يسرى فى الدماء، التى كادت تتجمد لطول فترة المنام، وما هى إلا لحظات حتى تنتاب الجسد رجفة الاستيقاظ لتعود الروح المحلقة أعلاه إلى الهبوط فيه مرة أخرى، مرت اللحظات دون إحساس بالزمن، حتى ذهبت السكرة، وجاءت الفكرة ودبت اليقظة فى الجسد النائم، فقام أصحاب الكهف من رقدة العدم، وأخذوا يحملقون فى بعضهم البعض، كان يكفى كل واحد منهم أن ينظر فى وجه صاحبه حتى يعلم ما أصابه.
فقد ابيض الشعر واسترسل بصورة عجيبة، وطالت اللحى والأظافر ورثت الثياب، وتعالت طبقات التراب فوق الأجساد. تعجبت الصحبة من هذه التغييرات المدهشة، التى لا تنحت خريطة الوجه الإنسانى إلا بعد مرور سنين طويلة، فكان من الطبيعى أن يتساءلوا فيما بينهم «وكذلك بعثناهم ليتساءلوا بينهم قال قائل منهم كم لبثتم قالوا لبثنا يوما أو بعض يوم قالوا ربكم أعلم بما لبثتم».
لم يكن مشهد المصريين حين استيقظوا فى الحادى عشر من فبراير الماضى يوم الإطاحة بالرئيس المخلوع بأعجب من مشهد أصحاب الكهف، الذين حكى لنا القرآن الكريم قصتهم. فقد مكثوا فى كهف مبارك فى حالة نوم عميق بعد أن نجح الإعلام المضلل وآلة القمع الشرطى فى أن تضرب على آذان الناس، وتغرقهم فى حالة من الخدر الكامل لمدة ثلاثين سنة.
وبعد أن استيقظوا من سباتهم نظر كل واحد منهم إلى مرآته، فإذا بمن كان يخطو فى سن المراهقة حين ترأس المخلوع الحكم قد شاب شعره وزاد تعبه وبدأ يخطو فى رحلة أمراض الشيخوخة بعد أن شارف على الخمسين من عمره، وإذا بمن كان يتبختر فى عمر الشباب حين أطل المخلوع من شرفة الحكم قد وهن عظمه، واشتعل رأسه بالشيب وأصبح سجيناً لذكريات الماضى الذى رحل، ورحل معه أحباؤه من أبناء عمره إلى عالم أفضل، وغدا ينتظر اللحظة التى سوف تأتيه عاجلاً أم آجلاً ليغادر.
أما من كانوا يرفلون فى عمر المراهقة أو الشباب – وقت خلع مبارك – فقد نظروا حولهم وهم فى حالة ذهول كامل غير مصدقين ما يحدث وأخذوا يتساءلون: هل يمكن فعلاً أن يرحل؟، هل يمكن أن يحكم مصر اسم آخر، لقد ولدوا فى عصره وعاشوا طفولتهم ورتعوا فى مراهقتهم، وخطوا سنين فى رحلة شبابهم ووجه الحاكم لا يتغير!.
لم يكن فى مقدور من مر على المصريين أيام وسنين حكم المخلوع أن يفرق بينهم وبين أصحاب الكهف حتى ولو كان ينظر إليهم فيرى اليقظة تلتمتع فى أعينهم، لكنهم كانوا نياماً بشكل عجيب يشبه «نومة» أصحاب الكهف «وتحسبهم أيقاظا وهم رقود». كانت المفارقة مدهشة تماماً أمام إنسان يتكلم ويأكل ويشرب ويمارس الحياة كما يفعل اليقظان فى حين كان يخلد إلى نوم عميق. وإذا كانت شمس الله إذا طلعت تزاور - أى تميل - عن أصحاب الكهف ذات اليمين وإذا غربت تقرضهم ذات الشمال فقد كانت سياط الظلم تكوى ظهور المصريين من غير أن يشعروا بأثر للهيب.
فالحكومة كانت قادرة على تخديرهم، وتستطيع أن تفعل بهم كل الأفاعيل وهم فى حالة الخدر تلك فضاقت عليهم الأرض بما رحبت داخل كهف نفوسهم، فمكثوا ثلاثين عاماً ميتين بالحياة أو أحياء داخل قبورهم. عاش المصريون تتراكم السنون فوق كواهلهم فى حين تخف أرزاقهم وترتفع أسعار معيشتهم. وظلوا هكذا حتى انتفض قطاع من شبابهم رافعاً شعار التغيير ليقوم بثورة دهمت الحاكم الظالم واكتسحت جنوده ورجت ملايين النائمين رجاً حقيقياً ليستيقظوا من سباتهم، وينظروا فى مرآة أنفسهم ليتبين لهم ما حاق بهم عبر هذه السنين الطويلة.
فالكهف ليس مجرد فجوة فى جبل، لكنه قبل هذا وذاك فجوة فى النفس أفلح مبارك ونظام حكمه فى تعميقها عبر سنين طويلة من خلال آلتين أساسيتين: أولاهما آلة التزييف وثانيتهما آلة التخويف. وقد تمثلت أدوات آلة التزييف فى أجهزة الإعلام سواء الرسمى أو الخاص.
فكلاهما كان يلعب على المواطن لعبة بهلوانية من أجل تسكينه. وسائل الإعلام بكل أطيافها كانت تتحدث عن الفساد ليل نهار، لكنها فى الوقت نفسه كانت دائبة على التأكيد على أنه لا سبيل إلى التغيير، وسوف تظل الأوضاع على ما هى عليه. كانت رسالة «مفيش فايدة» هى الرسالة الوحيدة التى تصالحت عليها كل القوى الساعية إلى ترسيخ وجود المصريين داخل الكهف، وكانت الرسالة تحمل دعوة صريحة لكل مواطن «ألق غطاءك فوق رأسك وغط فى النوم العميق».
وقد ظل الإعلام مخلصاً لمعادلة الولاء للسلطة السياسية ومدافعاً عنها وتابعاً لها، وكأنه كان يلعب دور الكلب الأمين، الذى رقد خارج الكهف ليحرس العصابة الحاكمة «وكلبهم باسط ذراعيه بالوصيد».
وإذا كان الإعلام فى كل الدنيا يقوم بدور كلب الحراسة، الذى يتولى مراقبة أداء المسؤولين والمؤسسات العاملة داخل أى مجتمع ليحدد مواطن الخطأ والصواب، ويعلنها أمام الرأى العام وجموع المواطنين حتى يتحركوا لتصحيح المعوج، وتنبيه المجتمع إلى المآزق التى يمكن أن يقع فيها نتيجة الأداء الباهت وغير المستقيم لمسؤوليه فإن إعلام المخلوع كان متشابهاً – إن لم يكن متطابقاً – مع إعلام سلطة «دقيانوس» الذى فر أصحاب الكهف من كفره وبطشه، لأنهم كانوا يريدونها مستقيمة، أما هو فكان يبغيها عوجا «الحمد لله الذى أنزل على عبده الكتاب ولم يجعل له عوجا قيما لينذر بأسا شديدا من لدنه».
ومن اللافت للنظر أن محاولات جميع القوى الساعية إلى إعادة المصريين مرة ثانية إلى النوم فى الكهف تعتمد على ذلك الكلب «الإعلامى»، الذى لم يزل باسطاً ذراعيه بوصيد «فناء» مصر، وقد ظهر ذلك واضحاً حين قررت السلطة الحاكمة إعادة وزارة الإعلام مرة أخرى ليتواصل دور الخطاب الإعلامى فى محاولة القذف بالمصريين إلى رحم الكهف ليناموا من جديد، وليطمئن الجميع فى منامه على الشهداء بعد أن اكتفت السلطة بأن تتخذ عليهم مسجداً، لأنها سلطة غالبة « قال الذين غلبوا على أمرهم لنتخذن عليهم مسجدا»، ولكن هيهات هيهات.. فقد أراد الله لأهل الكهف أن يستيقظوا «والله غالب على أمره ولكن أكثر الناس لا يعلمون».
No comments:
Post a Comment