بدأ الأمر بثلاث كاتبات كنديات: اندا ليس، وآن شامى، ومارى سودرستروم.. اجتمعن منذ سنوات وقررن إنشاء مؤسسة ثقافية كندية اسمها «متروبوليس بلو» الغرض منها لقاء الجمهور مع الكتاب من كل أنحاء العالم من أجل قراءة الأعمال الأدبية ومناقشتها.. فى شهر أبريل عام ١٩٩٩ تم تنظيم مهرجان «متروبوليس بلو» الأدبى لأول مرة فى مدينة مونتريال، نجح المهرجان وعاما بعد عام اكتسب شهرة دولية وأصبح من أهم مهرجانات الأدب فى العالم. كان المهرجان يقدم كل عام جوائز دولية للأعمال المكتوبة باللغات الغربية. فى عام ٢٠٠٧ قرر المهرجان تخصيص جائزة سنوية كبرى للأدب العربى، قامت بدعمها هيئة أبوظبى للثقافة والتراث تخليدا لاسم الشاعر الإماراتى الماجدى بن ظاهر الذى عاش فى أواخر القرن السابع عشر. فى كل عام تختار لجنة التحكيم أديبا عربيا لتمنحه جائزة «متروبوليس بلو» للإبداع العربى تقديرا لمجمل أعماله.. فى السنوات الماضية فاز بهذه الجائزة المرموقة أدباء كبار مثل الروائى اللبنانى إلياس خورى، والكاتب السورى زكريا تامر، والشاعر العراقى سعدى يوسف.. هذا العام شرفنى أعضاء لجنة التحكيم باختيارى لأكون، والحمد لله، أول أديب مصرى يحصل على جائزة «متروبوليس بلو» للأدب العربى.. سافرت إلى مونتريال وتسلمت الجائزة فى حفل بديع نظمته إدارة المهرجان. تم اختيار ممثلة كندية لتقرأ مقاطع من أعمالى بالفرنسية والإنجليزية. كان الحاضرون خليطا من الأجانب والعر،ب وقد حضر الحفل السفير المصرى فى كندا السيد وائل أبوالمجد الذى رأيت بنفسى كيف يحبه الكنديون ويحترمونه. ألقيت كلمة شكرت فيها الحاضرين ولجنة التحكيم التى منحتنى الجائزة، ثم أجرى معى السفير وائل أبوالمجد حوارا تحدثنا فيه عن الأدب والثورة فى مصر. كل المثقفين الكنديين الذين قابلتهم مبهورون بالثورة المصرية.. قالت لى كاتبة كندية:
ــ «لقد صنعتم فى مصر تاريخا جديدا. لأول مرة بعد أن تنجح الثورة يقوم الثوار بتنظيف الشوارع بأنفسهم.. يجب أن تفخر بأنك مصرى لأننا فعلا فخورون بكم».
كندا تعتبر نموذجا للدولة المدنية الديمقراطية التى تضم بين مواطنيها مهاجرين من كل الأعراق والديانات، لكنهم جميعا سواء أمام القانون. هناك مثلا قانون موحد لدور العبادة يخضع له الجميع دون تمييز، فالمسلم له حق بناء المساجد بنفس القواعد التى تخضع لها الكنائس أو المعابد اليهودية.. اليهود جزء من الثقافة الكندية وهم مندمجون كغيرهم فى المجتمع.. إلا أنه فى فترة السبعينيات توافد على مونتريال مهاجرون يهود أصوليون معظمهم من أوروبا الشرقية. هؤلاء اليهود المتشددون يعيشون جميعا فى حى واحد منعزل ولهم طقوس خاصة فى الحياة والزواج تجعلهم مختلفين عن بقية الكنديين.. الرجال يرتدون الملابس والقبعات السوداء والنساء يحلقن شعورهن بالموسى ويضعن باروكات شعر وفوقها قبعات لتثبيتها. أبناء هذه الطائفة يحلقون رؤوس أطفالهم الذكور تماما ويتركون خصلات متدلية على جوانب الرأس. عندما تلتقى المرأة من هذه الطائفة زوجها فى الفراش يجب أن تتأكد من أنه لا يوجد أى كائن حى فى الغرفة.. لا كلب ولا قطة ولا حتى ذبابة،
كما أنها ترتدى ثوبا من الحرير أو الصوف بحيث لا يلمس جسدها جسد زوجها أبدا إلا بالقدر الضرورى للجماع. أبناء هذه الطائفة لا يأكلون فى المطاعم العامة ولهم مطاعم خاصة تقدم «الكوشير»، الطعام اليهودى الحلال.. بعد غروب الشمس فى يوم الجمعة من كل أسبوع لا يستعمل اليهود المتشددون الكهرباء ولا السيارات ولا أى شىء يعمل بواسطة محرك. بالرغم من غرابة هذه الطقوس فإن الدولة تحترمها باعتبارها جزءا من حرية العقيدة، من حق كل مواطن أن يمارس طقوسه الدينية كما يحب، ولكن هناك سجالا دائما بين اليهود الأصوليين والحكومة الكندية، هذا السجال يوضح لنا دور الدولة المدنية وحدود تدخلها فى حياة المواطنين.
هؤلاء اليهود يتركون سياراتهم فى أماكن ممنوع الانتظار فيها يوم السبت، وبالتالى يكون عليهم أن يدفعوا غرامات الانتظار وقد حاولوا مرارا الامتناع عن دفع الغرامات، وقالوا إن دينهم يمنعهم من قيادة السيارات يوم السبت لكن الحكومة الكندية أصرت على تحصيل الغرامات لأن القانون يجب أن يسرى على الجميع دون تمييز. واقعة أخرى: أخذ اليهود الأصوليون دعما من الحكومة من أجل بناء مستشفى عام لعلاج المواطنين.. معظم العاملين فى هذا المستشفى من اليهود وقد حدث ذات مرة أن دخل مريض مسيحى للعلاج فى المستشفى فأحضر له أهله ساندويتشات من لحم الخنزير (وهو طعام محرم عند اليهود).. حدثت مشادة بين إدارة المستشفى والمريض الذى أصر على أكل لحم الخنزير فقررت إدارة المستشفى نقله إلى مستشفى آخر..
هنا تدخلت الحكومة الكندية واعترضت بشدة وخيرت المستشفى اليهودى بين أمرين: إما أن تقطع عنه الدعم الحكومى تماما ليتحول إلى مستشفى يهودى خاص، وإما أن تسمح إدارة المستشفى للمرضى جميعا بممارسة حياتهم بعيدا عن التعليمات اليهودية، وقد أذعنت إدارة المستشفى لتعليمات الحكومة وأقلعت عن التدخل فى حياة المرضى غير اليهود.. الفكرة هنا أن الدولة المدنية (التى نطالب بها فى مصر) ليست دولة ملحدة ولا معادية للدين كما يتصور البعض. الدولة المدنية كيان محايد لا يرتب فيه الدين أى حقوق سياسية، وهى تتعامل مع المواطنين جميعا على قدم المساواة بغض النظر عن اختلافهم فى الدين أو اللون أو الجنس. لو كانت الدولة تحمل صبغة دينية ما أو كانت منحازة لدين معين لتعذر عليها تطبيق القانون بحياد لأن أصحاب الديانات المختلفة عن دين الدولة سيتحولون تلقائيا إلى مواطنين من الدرجة الثانية. قال لى أصدقائى الكنديون إن الجالية المسلمة فى كندا لا تسبب مشكلات وتحترم القانون وتحظى بقبول المجتمع الكندى. فى اليوم التالى لتسلم الجائزة دعانى المصريون إلى لقاء نظمته جمعية المصريين واتحاد الطلبة المصريين فى مونتريال.
كان اللقاء فى قاعة كبيرة امتلأت عن آخرها بعشرات المصريين الذين كانوا يمثلون كل أطياف المجتمع المصرى فى المهجر: شبان وشيوخ، محجبات وسافرات، أقباط ومسلمون.. منذ اللحظة الأولى تفجرت القاعة بالحماس للثورة ووقفت بنت مصرية محجبة لتردد هتافات الثورة والحاضرون يهتفون خلفها، ثم غنينا جميعا «بلادى بلادى» ووقفنا دقيقة حداداً على شهداء الثورة الذين قدموا حياتهم من أجل أن ننعم نحن بالحرية والكرامة. المصريون فى مونتريال نماذج مشرفة حقا، حاصلون على أرقى الشهادات ويعملون فى أهم الوظائف وقد كان تأثير الثورة المصرية عليهم عظيما.. حكوا لى أنهم كانوا يعيشون فى مونتريال منعزلين عن بعضهم البعض حتى جاء يوم ٢٥ يناير فتوجهوا جميعا بشكل تلقائى ليتظاهروا أمام القنصلية دعما للثورة، عندئذ تعارفوا جميعا وأنشأوا جمعية المصريين فى مونتريال وهم يجتمعون كل أسبوع ليتبادلوا الأخبار ويتناقشوا فيما يحدث فى مصر.. انهمرت علىّ أسئلة الحاضرين، كلها تعكس انتماءهم للثورة وخوفهم عليها، وتدل على أنهم يتابعون ما يحدث فى مصر وكأنهم يعيشون فيها. ذكّرتهم بالعبارة الرائعة التى قالها البابا شنوده الثالث:
ــ «مصر ليست وطنا نعيش فيه وإنما وطن يعيش فينا».
المصريون فى كندا سعيدون بأنهم للمرة الأولى سيتمكنون من ممارسة حقهم فى التصويت فى الانتخابات البرلمانية والرئاسية، لكنهم جميعا، خصوصا الأقباط، قلقون من البروز المفاجئ للإخوان المسلمين والجماعات الإسلامية المتشددة.. قلت لهم إننا يجب أن نفرق بين الإخوان والوهابيين المتشددين.. الإخوان، بالرغم من اختلافى مع بعض أفكارهم ومواقفهم السياسية، يؤمنون بقواعد الديمقراطية وهم ليسوا متطرفين وقد تخلوا عن العنف منذ الستينيات، وبالتالى من حقهم أن يشكلوا أحزابهم السياسية التى ستكون فى النهاية مثل الأحزاب اليمينية المسيحية فى الغرب..
أما الجماعات الوهابية المتشددة فمن حقها بالطبع أن تعبر عن أفكارها، لكن هذه الأفكار رجعية لا تصلح للعصر الحديث. وكل من يتهمنى بالتجنى عليهم أرجوه أن يقرأ فتاوى الشيخ ابن باز وغيره من أئمة الفكر الوهابى فهم يحرمون الديمقراطية، ويحرمون الاختلاط بين الرجال والنساء فى التعليم والعمل، ويحرمون الموسيقى والفنون جميعا كالنحت والمسرح والسينما، ويحرمون قيادة المرأة للسيارة، ويعتبرون التظاهر والإضراب حراماً ويطالبون بطاعة الحاكم المسلم حتى وإن كان ظالما.. أضف إلى هذا أن الجماعات الوهابية (باستثناء مقتل أحد أعضائها من أثر التعذيب وهو الشهيد سيد بلال) كانت تعمل بتنسيق كامل مع جهاز أمن الدولة لسنوات طويلة. من هنا فإننى أعتقد جازما أن هذا الظهور المفاجئ للوهابيين المتطرفين ليس بريئا وهو، فى رأيى، نوع من التآمر على الثورة يراد به تحقيق عبارة حسنى مبارك التى قالها فى آخر حديث له مع التليفزيون الأمريكى:
ــ «أريد أن أترك الحكم لكننى أخشى على مصر من الفوضى والمتطرفين والاعتداء على الأقباط»..
تطرق النقاش إلى موضوع كاميليا شحاتة والفتيات المسيحيات اللاتى أشيع أنهن أسلمن وقامت الكنيسة باحتجازهن. قلت لهم إن معظم المشكلات الطائفية كانت من صنع النظام السابق حتى يبرر حكمه المستبد، وأكدت أنه فى الدولة الديمقراطية حرية العقيدة مكفولة وليس من حق الكنيسة أو الأزهر أو أى جهة أن تحتجز مواطنا لأنه قرر تغيير دينه. هنا قام أحد الحاضرين وقال:
ــ أنا قبطى ورأيى أن الكنيسة المصرية أخطأت عندما قررت إخفاء السيدات اللاتى تردد أنهن اعتنقن الإسلام.. يجب أن تخرج كاميليا شحاتة أمام الجميع وتعلن عقيدتها، فإذا كانت مسلمة فليس من حق أحد أن يحتجزها أو يعاقبها، وإذا كانت مسيحية فيجب محاكمة الذين اتهموا الكنيسة باحتجازها.
هنا صفق الحاضرون بحماس وأحسست بأننى استعدت الروح العظيمة التى عشتها فى ميدان التحرير عندما كان الأقباط يتماسكون بالأيدى ليشكلوا حلقة لحماية المسلمين الذين يؤدون صلاة الجماعة.. عندما كان الأقباط يقيمون القداس قبل أن تقام صلاة الجمعة.. فى نهاية اللقاء تزاحم حولى الحاضرون يسألوننى كيف يمكن أن يساعدوا الثورة.. كلهم يتمنون أن يفعلوا شيئا من أجل مصر.. قلت لهم إنهم بإذن الله سيكونون قوة مصر التى ستعبر بها إلى المستقبل.. أكدت لهم أن مصر لن تعود إلى الوراء ولن تنهزم ولن تنكسر أبدا مادام فيها مصريون مخلصون ورائعون مثلهم.
الديمقراطية هى الحل
No comments:
Post a Comment