الشروق- 23.5.2012
http://www.shorouknews.com/columns/view.aspx?cdate=22052012&id=a538b1d5-bd03-4cfb-81e8-66cc0cfe2df5
أكبر خطأ أن يتصور أى أحد أن المنافسة فى الانتخابات الرئاسية التى تجرى اليوم هى بين الإسلاميين والعلمانيين. أو بين مشروعى الدولة المدنية والدينية، لأنها فى حقيقة الأمر بين الثورة وبين الثورة المضادة. أو بين الحلم والكابوس. وقد لا أبالغ إذا قلت إنها أيضا بين ميدانى التحرير وروكسى. وربما كان ذلك تعبيرا أدق لأن الذين احتشدوا فى ميدان التحرير فى 25 يناير هم شعب مصر بكل فئاته. أما الذين اجتمعوا لاحقا فى ميدان روكسى فهم الذين تعلقت أهواؤهم وربما مصالحهم وارتباطاتهم بالنظام القديم. ومن المفارقات أن يقع ميدان روكسى فى قلب «مصر الجديدة»، فى حين أن الذين تظاهروا فيه ينتمون بامتياز إلى مصر «القديمة» التى جثم على صدرها مبارك (وأعوانه) وأراد أن يظل ممسكا بخناقها حتى «آخر نفس»، كما ذكر صراحة، وسعى لأن يورثها لابنه من بعده إلى أجل لا يعلمه إلا الله.
لذلك فإن حلم مصر الجديدة كان ولايزال فى ميدان التحرير، وأى التباس أو خطأ فى قراءة المشهد والعنوان يغدو كارثيا. يفتح الباب لإجهاض الثورة والانقضاض عليها.
أدرى أن ثمة تناقضات بين التيارين الإسلامى والعلمانى، وأن التنافس والصراع بينهما لم يتوقفا طيلة الخمسة عشر شهرا الماضية. وكلنا شاهدنا بأعيننا التجاذب بين الفريقين، وكيف أنه اتخذ فى بعض الأحيان «صورا غير صحية تجرح هذا الطرف أو ذاك. إلا أننى أشدد على أن التناقض الرئيسى ــ الأكبر والأخطر ــ هو بين التيارين معا وبين نظام مبارك. وأنبِّه إلى أن كل التراشقات التى حدثت بين الإسلاميين والعلمانيين مرجعها سوء التقدير أو سوء الظن أو إساءة إدارة الخلاف، أما ما بين الطرفين وبين أركان النظام السابق وأعوانه فهو أعمق وأعقد بكثير. هو شىء أبعد من الظنون وسوء التقدير، وأقرب إلى الخصومة المتأصلة التى صنعتها مرارات ثلاثين عاما من الاستبداد والفساد.
من هذه الزاوية، فإن أية سوءات تنسب إلى الإسلاميين أو العلمانيين لا تكاد تقارن بجرائم النظام السابق وسجل جناياته على الوطن. لا أنكر أن التيار الإسلامى بوجه أخص أساء تقديم نفسه بعدما حاز الأغلبية فى الانتخابات التشريعية. كما أنه تعرض لحملة تشويه عاتية أسهمت فيها وسائل الإعلام التى مازالت متأثرة بخطاب الفزاعة الذى اعتمده النظام السابق. لكننى أذكر أن الجميع حديثو عهد بالممارسة الديمقراطية، التى حرمنا منها النظام السابق. إلا أننى أرجو ألا نتعامل مع ذلك التيار باعتباره كتلة صماء واحدة، ولكنه يضم جماعات من البشر تتباين أفكارهم ومواقفهم. وشأنهم شأن أى جماعة بشرية، فيهم العقلاء المعتدلون، وفيهم المتطرفون والحمقى.
وليس صحيحا أن الصراع فى مصر بات محصورا بين الدولتين الدينية والمدنية. فهذا اختزال مخل، بل خبيث ومشكوك فى براءته. حتى أزعم بأن الترويح لهذه الصيغة هو من قبيل التدليس والغش، ليس فقط لأن الإسلام لا يعرف الدولة الدينية المتعارف عليها فى التجربة الأوروبية، ولكن أيضا لأن النماذج التى تستدعى فى هذا الصدد بعضها له خصوصيته المذهبية (ولاية الفقية مثلا عند الشيعة الاثنى عشرية) أو أنها مرتبطة بحالة من التخلف يستحيل استنساخها فى الحالة المصرية (دولة طالبان فى أفغانستان مثلا). ثم لا ننسى أن ثمة توافقا بين الجميع فى مصر ــ إسلاميين وعلمانيين ــ على الإبقاء على المادة الثانية من الدستور التى تنص على اعتبار مبادئ الشريعة الإسلامية مرجعا للقوانين، ووثيقة الأزهر التى أيدها مختلف الأطراف لا تدع مجالا لاستمرار ذلك الصراع المفتعل، من حيث إنها صححت المعادلة وانحازت إلى الدولة الديمقراطية الحديثة التى تحفظ للدين مكانته وتديرها المؤسسات المدنية فى مختلف المجالات.
إضافة إلى ما سبق لا يغيب عن البال أن الفشل فى التوافق المرجو بين الطرفين الإسلامى والعلمانى يتحمل الطرفان المسئولية الأكبر عنه لا ريب. لكن النظام السابق الذى تحكم فى البيئة السياسية فى مصر طيلة الثلاثين سنة الأخيرة يتحمل بدوره جانبا من تلك المسئولية. لأن سوء إدارته للمجتمع وإصراره على تغييب المشاركة والثقافة الديمقراطية أسهما فى تشويه العلاقات بين القوى السياسية. ولم يكن سرا أن له مصلحة فى جعل العلاقات فيما بينها تقوم على التقاطع والتنابذ وليس التوافق.
إن التحدى الذى يواجهه الناخب اليوم يتمثل فى إدراكه لجوهر التناقض المطروح فى اللحظة الراهنة، المتمثل فى الاختيار بين استمرار الثورة وبين النكوص عنها وإجهاضها. وفى ضرورة التصويت للثورة وليس لأى طرف آخر منسوب إلى النظام الذى رفضته ودفعت لأجل ذلك ثمنا غاليا من دماء الشهداء وعيون الأحياء. ذلك أننا لا نريد فى نهاية المطاف أن يرأس مصر مبارك مستنسخ أو معدل. لا نريد بالضرورة أن يكون الرئىس واحدا «مننا» كما تقول دعاية صديقنا حمدين صباحى، لأن الأهم ألا يكون واحدا «منهما»!
No comments:
Post a Comment