Tuesday, December 6, 2011

حمدى قنديل يكتب: شهادة لـ«الجنزورى» وشهادة عليه

٥/ ١٢/ ٢٠١١
علاقتى بالدكتور كمال الجنزورى لا يزيد عمرها على عامين، أى بعد مجىء الدكتور البرادعى إلى مصر مباشرة.. تفضل بالاتصال بى، والتقينا، وتكررت لقاءاتنا منذ ذلك الحين، خاصة أنه يسكن الحى نفسه: مصر الجديدة.. أظن أن الكل بات يعرف الآن أنه يستأجر هناك شقة متوسطة المساحة لايزال يقطنها منذ نحو ٣٠ سنة، أما «المكتب» الذى نلتقى فيه فهو شقة أعارها له زوج ابنته ليستقبل فيها ضيوفه..
الدكتور الجنزورى، على ما أعلم، ليست لديه أملاك، بل إنه لا يملك سيارة، وهو رئيس الوزراء السابق الوحيد الذى لم يتعطف عليه مبارك بعد خروجه من الوزارة برئاسة بنك أو إدارة شركة أو وسام، مثل ذلك الذى منحه لوزير الإسكان الأسبق محمد إبراهيم سليمان.. هو رجل شريف، وهذا ما زاد من إعزازى له، ومن تقدير الناس.
سجل الدكتور الجنزورى فى الحكم ليس على المستوى نفسه من الوضوح، ففى حين يتغنى أنصاره بإنجازاته، نجد لدى خصومه قوائم جاهزة من الإخفاقات، بدءاً من توشكى وشرق التفريعة وحتى سياسة الخصخصة وقروض رجال الأعمال الكبار، إلى عدائه لحرية الصحافة.. لكنه حتى وإن كان قد أخطأ فقد يغفر له أنه لم يكن يسمح بالفساد، وهو ما استعدى الثالوث الأشهر: يوسف بطرس غالى وصفوت الشريف وزكريا عزمى، وأطاح به فى النهاية.. الروايات حول مشهد النهاية لا تحصى، لكن ما أستطيع استخلاصه هو أن الرجل كان كثير الاعتزاز بنفسه، وكان يريد أن يمارس صلاحيات منصبه دون نقصان.
معظم أحاديثنا كان فى الشأن السياسى، ولم يكن مفاجئاً لى استياؤه البالغ من عموم الأوضاع فى البلد.. الذى فاجأنى فيما بعد أنه كان دائم الاتصال بعدد من الكتاب المعارضين وبعض الرموز السياسية أيضاً، بل إنه حملنى رسائل إلى بعضهم، وكان متحمساً بصفة خاصة للجمعية الوطنية للتغيير وإن لم يبد الحماس بنفسه للدكتور البرادعى..
أكثر ما كان يحيرنى فيه هو أنه كان دائم النصح لبعض رموز عهد مبارك، بل ولمبارك نفسه، برسائل غالباً ما كانت تتعلق بشؤون الاقتصاد، وأنه كان يلبى دعوات الرئاسة للحضور فى المناسبات الرسمية، وكنت بحسن الظن دائماً ما أعتقد أنه يريد أن ينقذ ما يمكن إنقاذه من المستنقع الذى هوت إليه مصر، وأنه يريد أن يأمن جانب السلطة حتى يتحين الفرصة للانقضاض.
ما لا يعرفه كثيرون أن تردده الدائم فى إبداء الاعتراض العلنى كان يرجع إلى تعلقه بحفيده، ووسواسه الدائم أن أياً ممن يريدون تصفية الحسابات معه سوف يتصيدون الحفيد.. وكنت أرى أن هذا التخوف مبالغ فيه، بل وإن حماية الحفيد يمكن أن تكون فى إعلان الاعتراض، حيث سيكون الجرم عندئذ مشهوداً والدافع إليه غير خاف على أحد.. وكنت أقول له إن من يراقبون مكالماتك ويرصدون تحركاتك وضيوفك بدأوا يتيقنون من نواياك، والأفضل أن تباغتهم قبل أن يقنصوك..
 قبل الثورة بأسابيع قليلة بدأ يميل إلى إصدار بيان ينضم فيه إلى صفوف المعارضة، بل إننى يمكن أن أجزم بأنه أسر إلى اثنين من القريبين منه بأنه أعد أول مسودة للبيان وأنه عازم على نشره، إلا أن الثورة هى التى فاجأت الكل.. وعندما عدنا بعدها إلى الحديث عن البيان، لم يقبل أن يظن به أحد أنه ينتهز الفرصة ليركب موجة الثورة.
فى الشهور الثلاثة الأخيرة لم يباعد بينى وبين الدكتور الجنزورى الانشغال ببرنامجى الجديد فى قناة «التحرير» فقط، ولكننى لاحظت الاتصالات بينه وبين المجلس العسكرى، الذى كانت شكوكى فى نواياه قد تزايدت، وفهمت من العالمين ببواطن الأمور أنه يعد ليكون المرشح الرئاسى المفضل، وليس رئيساً لحكومة تحل محل حكومة شرف.. فى المقابل كانت القوى الوطنية قد بدأت الدعوة إلى حكومة إنقاذ برئاسة الدكتور البرادعى، ورغم خلافى المعروف معه فقد أبلغت كل رفاقنا بأننى متفق مع ما تتجه إليه الغالبية، وأننى لا يمكن أن أنكر دور الدكتور البرادعى المشهود فى الثورة..
 لكن المجلس العسكرى، اتساقاً مع غطرسته التى تنامت مؤخراً ومع ازدرائه للقوى السياسية، اتخذ قراره بتكليف الدكتور الجنزورى برئاسة ما سمى «حكومة الإنقاذ»، وتشكيل المجلس الاستشارى الصورى، وهو ما زاد من حدة الانقسام بين صفوف الشعب.. لهذا عارضت حكومة الجنزورى بصرف النظر عن شخص رئيس الحكومة، ولا أزال أعارضها.
أعرف أن المجلس العسكرى لا يمكن أن يعود عن هذا القرار ويشكل حكومة ثورية، وأقر له بأنه كان ماهراً فى اختيار توقيته والبلد مشغول بالانتخابات، يكاد لا يعنى بشىء آخر، وسيظل مشغولاً بها حتى منتصف يناير.. كغيرى، أكره أن يرغمنا المجلس العسكرى على تقبل الأمر الواقع، ولكننى لا أجد بديلاً سوى الوهم بأن الثورة ستستطيع أن تفرض حكومتها.. بموازين القوة القائمة، يمكننا أن نسقط الجنزورى، لكنه يستحيل علينا أن ننصب رئيساً من صفوفنا الآن، وحتى لو حدث هذا فسوف يكون ثمنه صراعاً لن يخلو من إراقة مزيد من الدماء.
ربما يكون الأجدى والأكثر تعقلاً الآن أن نقبل، ولو مرغمين، بإتاحة الفرصة لحكومة الجنزورى حتى ٢٥ يناير، عيد الثورة.. حينها نحاسبه عما أدى فى مجال الأمن وفى مجال الاقتصاد، ونحاسبه عما حققه من أهداف الثورة وفى مقدمتها المحاكمة العادلة الناجزة لمبارك ولقتلة الثوار، وعزل من أفسدوا الحياة السياسية، وإيقاف محاكمة المدنيين أمام المحاكم العسكرية، والإفراج الفورى عن المعتقلين والمسجونين من شباب الثورة، وعلاج المصابين وتعويض أسر الشهداء.. لن يطول انتظارنا إذن أكثر من شهرين، وانتظارنا هذا ليس هزيمة..
نحن لم نهزم.. لقد حققت الثورة الكثير.. أسقطنا مبارك، وأقلنا حكومة شرف، وفتحنا الطريق أمام الملايين ليقرروا بأصواتهم مستقبلهم، وسحقنا فلول الحزب الوطنى فى الانتخابات، وغيرنا وجه مصر.. ولكن لابد أن نعترف فى الوقت ذاته بأن قبضة الثورة بدأت تتراخى قليلاً، وأن أعداءها يتربصون بها، وأن عموم الناس يريدون فسحة وقت لالتقاط الأنفاس.. لتكن إذن فرصة حدها الأقصى ٢٥ يناير لإعادة تنظيم الصفوف ومواصلة الضغط على المجلس العسكرى وعلى الحكومة ذاتها، حتى نقطع دابر أى محاولة لإجهاض الثورة.
أعرف أن هذا ليس الوقت المناسب لطرح اقتراحى والدكتور الجنزورى يتخبط فى اختياراته ويبدو كما لو كان يشكل حكومة شرف معدلة، يتصدرها مرشحون من غياهب عهد مضى، وأعرف أنه أخطأ خطأ فادحاً بقبوله هذا التكليف، وأعرف أن البعض سيتفق معى وسيختلف آخرون، لكننى لا أود أن أسترضى هؤلاء أو أستفز أولئك.. يكفينى أن أرضى ضميرى.
 

No comments:

Post a Comment