فهمى هويدى
لدى ثلاث ملاحظات على ما جرى فى مصر. الأولى أن الأشهر الستة الماضية ضاعت فى المماحكات والتراشقات والجدل العقيم، وضاعت معها فرصة تأسيس النظام الذى من أجله قامت الثورة، حتى وجدنا أنفسنا فى نهاية المطاف أمام مليونية جديدة خرجت تطالب باسترداد الثورة يوم الجمعة الماضى (30 سبتمبر).
الملاحظة الثانية أن حملة التخويف التى حققت نجاحا نسبيا أعادت إنتاج خطاب النظام السابق بكل عناوينه ومفرداته وحتى شخوصه. بحيث أصبحت «فزاعة» ما قبل 25 يناير هى ذاتها فزاعة ما بعد ذلك التاريخ.
الملاحظة الثالثة أن حملة التخويف شملت جبهة أوسع بكثير مما نتصور. فالكلام الذى أطلقه البعض فى مصر وجدناه يتردد على ألسنة بعض الحكام المستبدين، الذين ما برحوا يخوفون من شبح الأصوليين والتطرف المرشح لكى يمسك بزمام الأمور فى حال رحيلهم (مبارك دأب على ترديد هذه المقولة للغربيين ولاحقا لوح بها القذافى وعلى عبدالله صالح وبشار الأسد). وهو ذاته الذى تداولته وسائل الإعلام الغربية وتحدث به السياسيون والدبلوماسيون، الذين اعتبروا أن صعود الإسلاميين يهدد مصالحهم. ويهدد الديمقراطية (كأنهم حريصون عليها!) كما أنه ذاته الذى حذر منه رئيس الوزراء الإسرائيلى بنيامين نتنياهو فى تحذيراته وتصريحاته الأخيرة أمام الأمم المتحدة من تنامى تجليات التطرف الإسلامى. اختلفت التعبيرات والحسابات حقا، لكن الموقف ظل واحدا فى جوهره.
يهمنی فى السياق الذى نحن بصدده الصدى الذى أحدثته الثورات فى دوائر الدول النفطية العربية. ومبلغ علمى أن تلك الدوائر لم تسترح لانطلاق الثورات العربية، وقد علمت من مصادر أثق فى معلوماتها أن هذا الموضوع كان محل تشاور بين قادة تلك الدول فى بداية الصيف. وأثيرت فى المشاورات أمور خمسة هى:
● أنه ينبغى بذل جهد لوضع حد لزحف تلك الثورات، حتى لا تتطاير شراراتها فى المنطقة.
● إن ظهور الجماعات الإسلامية بصورة مكثفة فى ساحة العمل السياسى ينبغى أن يتم احتواؤه، بحيث لا يتجاوز ذلك الحضور حدود المشاركة السياسية إلى التأثير على القرار السياسى.
● إن النفوذ التركى يتزايد فى العالم العربى، وهو قد يكون مرحبا به فى المجال الاقتصادى، لكن الحاصل أن ارتفاع أسهم حزب العدالة والتنمية ذى المرجعية الإسلامية، يفتح شهية الجماعات الإسلامية فى العالم العربى لأن تحذو حذوه فى طموحاتها.
● إن بعض وسائل الإعلام المؤثرة فى العالم العربى ــ قناة الجزيرة بوجه أخص ــ تؤدى دورا أكثر من اللازم فى التعبئة والتحريض بما يتجاوز الخطوط الحمراء التى ينبغى التوقف عندها. وإذا كانت الدول الخليجية قد أعربت عن قلقها من انتشار شرارات الثورات، فلا يستقيم فى ظل هذا الموقف أن تسهم بعض وسائل الإعلام الخليجية فى تأجيج تلك الثورات.
● إن الشعوب التى ثارت على حكامها ينبغى ألا تكافأ على ما أقدمت عليه حتى لا تتمادى فيما ذهبت إليه، وإنما ينبغى أن تتلقى رسالة «عدم الرضا» من الدول الخليجية.
(4)
معلوماتى أن التشاور حول هذه الأمور استمر طوال أشهر الصيف، وأن اجتماعات موسعة وأخرى ثنائية عقدت لذلك الغرض خلال تلك الفترة. ولست متأكدا من دور الأطراف الغربية فى تلك المشاورات، لكن الذى لا شك فيه أنها كانت على صلة بها.
عندما حل الخريف ظهرت فى الأفق إشارات عدة توحى بأن ما تم التوافق عليه دخل حيز التنفيذ. من تلك الإشارات ما يلى:
● إعادة الرئيس على عبدالله صالح إلى صنعاء لكى يمارس صلاحياته بعدما غاب عنها منذ ثلاثة أشهر كان يعالج خلالها فى الرياض من محاولة اغتياله. وكان الاعتقاد السائد أنه لن يعود حفاظا على الاستقرار فى اليمن، بعد الإصرار الشعبى واسع النطاق الذى يطالبه منذ ستة أشهر بالرحيل.
● التراجع فى تقديرات المبالغ التى كان قد أعلن عنها لتخفيف الضائقة الاقتصادية التى تمر بها مصر. فبعدما أعلنت إحدى الدول النفطية عن تقديم عشرة مليارات دولار، وتحدثت دولة ثانية عن سبعة مليارات وثالثة عن خمسة مليارات دولار، فإن هذه الأرقام خفضت، بحيث لم تتلق مصر حتى الآن سوى 500 مليون دولار وديعة من السعودية.
● صدرت تعليمات فى بعض تلك الدول بتقييد العمالة الوافدة من دول الثورات العربية ومن بينها مصر. وترتب على ذلك أن تقلصت بصورة ملحوظة عملية تجديد عقود العمل أو إصدار تأشيرات الدخول الجديدة. وتحدثت بعض الدول عن تنظيم جديد للعمالة الوافدة يؤدى إلى تسريح أعداد منهم.
● حدث التغيير فى إدارة قناة الجزيرة التى قادت حملة التعبئة فى المرحلة الماضية، بدعوى أن ثمة مرحلة جديدة اختلفت فيها سقوف الحركة، الأمر الذى كان لابد أن يستصحب ظهور قيادات أخرى تناسب الوضع المستجد.
كيف ستسير الأمور بعد ذلك؟ لا أعرف على وجه التحديد، ولكن الذى أثق فيه أنه طالما بقيت الجماهير العربية الغاضبة ثابتة على موقفها وصامدة فى الشوارع والميادين، فإننا ينبغى ألا نقلق على المستقبل. حيث ذلك الثبات كفيل بإفشال محاولات الإجهاض والاحتواء. كما ينبغى ألا ننسى أن شعوبنا فتحت أعينها أخيرا وأرادت الحياة، وأن ذلك إيذان بقرب استجابة القدر.. قولوا إن شاء الله
No comments:
Post a Comment