Wednesday, November 14, 2012

ما هذا الخَبَل؟ - فهمي هويدي



14 نوفمبر  2012

ما هذا الخَبَل الذي نحن فيه؟
هل يعقل أن يكون تحطيم الأهرامات وأبو الهول والمعابد الفرعونية موضوعا للمناقشة في بلد يريد أن ينهض ليدخل التاريخ؟

هب أن مخبولا قال هذا الكلام، واقتنع فعلا بأن ما ينكره يجب أن يختفي من على وجه الأرض، فهل يعقل أن يأخذ العقلاء والراشدون كلامه على محمل الجد؟

 وبدلا من أن يقترح أحدهم إحالة صاحب الكلام إلى مصحة للأمراض العقلية والنفسية، ويرشح لنا طبيبا حاذقا يستطيع أن يتعامل مع الحالة، فإننا وجدنا منابر إعلامية تردد الكلام وتشيعه بين الناس،
 ومثقفين يعبرون عن استنكاره ويستخرجون منه الدلالات التي لابد أن يكون من بينها ليس أن الرجل مريض ويستحق العلاج، ولكن أن مناخ التدين الذي شاع في البلد استدعى هذه الأفكار وشجع أصحابها على الجهر بها.

ومن ثم فليست المشكلة في عقل الرجل ولا في تردي حالته الذهنية والنفسية، ولكنها في وعي الأمة الذي تشوه وأصبح مستعدا لاستنبات أمثال تلك الأفكار، ولابد للبيب أن يفهم الإشارة في هذه الحالة!

أتحدث عن صاحبنا الذي انتقاه برنامج تلفزيوني وقدمه إلينا لكي يلوث أسماعنا بهذا الكلام، ويحاول إقناعنا بأن الحضارة الفرعونية حضارة كافرة، وأن الأهرامات وأبو الهول وما شابهها ليست سوى أصنام يجب تحطيمها كما فعل النبي إبراهيم وكما فعل النبي محمد عليه الصلاة السلام مع الأصنام التي أقامتها قريش،

ليس ذلك فحسب ولكن الرجل أفرغ ما عنده أمام كاميرات التلفزيون وشجعته حفاوة مقدم البرنامج الذي اعتبره صيدا ثمينا و«ضربة» تلفزيونية «حصرية»، فأضاف أنه وجماعته لن يكتفوا بذلك. ولكنهم سيحطمون كل نوادي الفجور الموجودة في شارع الهرم، وسيزيلون مختلف مظاهر الخلل والدعارة والعربدة.

وبعد أن أخذ راحته حدثنا عن تاريخه المرضي، فذكر أنه ورفاقه اشتركوا في تحطيم تمثالي بوذا في أفغانستان بعد أن أمر بذلك الملا عمر ــ زعيم طالبان ــ الذي ذبح حينذاك 100 بقرة اعتذارا لله عن التأخر في تحطيم الأصنام.

فهمنا من التغطية الإعلامية التي اهتمت بالرجل أن المذكور ينتمي إلى كيان اسمه السلفية الجهادية، وأنه وجماعته في حدود خمسين نفرا كلهم قياديون وليس لهم قواعد (!) ــ وأنهم ممن حاربوا الصليبيين والكفار في أفغانستان والعراق والشيشان وغيرها،
بمعنى أنهم أمضوا عشرين سنة على الأقل في الكهوف والمخابئ ووسط الأحراش،

وهؤلاء الخمسون الذين يمكن توزيعهم على عنبرين في أي مصحة عقلية أو نفسية نذروا أنفسهم لتطهير المجتمع المصري من مظاهر الزندقة والوثنية ومكامن التهتك والفجور، وليس وارد لديهم أن يبنوا شيئا ينفع الناس.

هل أخطأ الرجل؟
 ــ لا أتردد في القول بأنه لم يخطئ.
ذلك أن أي مار بشوارع القاهرة لابد أن يصادف كثيرين من جنسه، بعضهم في أزياء الدراويش الرثة، وبعضهم يرصعون صدورهم بأغطية زجاجات المياه الغازية، ويعتبرون أنفسهم «جنرالات» يقودون الجيوش السائرة في شوارع العاصمة،
جميعهم ملتحون بدورهم وزائغو البصر، ولا يكفون عن الصياح والنداء بعبارات لا تختلف كثيرا عما يردده صاحبنا القادم من جبال تورا بورا.
 لكن المجتمع العاقل يتحاشاهم ويرثي لحالهم، ولا يخلو الأمر من بعض الصبية الذين يتبعونهم ويناوشونهم وربما سخروا منهم ورشقوهم بالحجارة.

مجتمعنا العاقل لم يعتبرهم نجوما ولم يحتفِ بهم.
لكن منابرنا الإعلامية ما برحت تفتش عن أمثالهم بين المنسوبين إلى التدين، ووجدت ضالتها في أوساط غلاة السلفيين الذين لم يقصروا في تزويد الإعلاميين الراغبين بالعجائب والغرائب التي تشبع حرصهم على الإثارة وتنافسهم على الفرقعات التي تحدث أكبر من اللغط والضجيج، غير مبالين بما يحدثه ذلك من تلوث وتشويه للوعي وإشغال للناس بالصغائر والسخافات.

ليس الأمر مقصورا على صاحبنا الذي دعا إلى هدم الأهرامات وأبوالهول، واستنفر جوقة «المثقفين» المتربصين والجاهزين للتنديد والترويع، لكننا صادفنا نظائر أخرى له، تنافست بعض وسائل الإعلام في استدراجهم واستنطاقهم والتهليل لهم،
منهم من دعانا للعودة إلى أزمنة السبايا وملك اليمين،
ومنهم من تحدث بشكل جاد عن مشروعية الرق.
ومنهم من تبنى الدعوة إلى تزويج الفتيات في سن التاسعة،
ومنهم من حدثنا عن مفاخذة الغلمان، وليس بعيدا عنهم من حللوا إرضاع الكبير وأرادوا إقناعنا بالعلاج ببول الإبل.

مازلت عند رأيي في أن أمثال هؤلاء يستحقون العطف والرثاء، وأن إحالتهم للعلاج في إحدى مصحات الأمراض العقلية أكبر خدمة تقدم لهم، وللمجتمع وللإسلام أيضا.

لكني وجدت أن ذلك لن يحل الإشكال الذي له وجه آخر يتمثل في أولئك الذين يبحثون عنهم وينتقوهم من دون خلق الله الأسوياء، ثم يقدمونهم من خلال المنابر الإعلامية باعتبارهم رموزا وقياديين.

لقد انتقدت موقف أولئك الإعلاميين من قبل في كتابات عدة، ولكنهم لم يغيروا شيئا من مسلكهم.
ويعنُّ لي الآن أن أقترح تخصيص عنبر آخر لهم في المصحة التي سبقت الإشارة إليها،
 لكني لست واثقا من احتمالات نجاح علاجهم.


No comments:

Post a Comment