Wednesday, August 15, 2012

قبل أن يهزم الجميع والوطن أولهم


14 أغسطس 2012
 فهمي هويدي

لا يزعجنا تتابع الزوابع على مصر خلال الأسبوع الأخير، لكن المزعج حقا أنها جميعا لا علاقة لها بالآمال المعلقة على الثورة وإنها بمثابة استدراج لنا لخوض معارك عدة على الجبهة الغلط.

(1)

خذ مثلا تداعيات جريمة قتل 16 ضابطا وجنديا مصريا في رفح، التي أصابتنا من حيث لا نحتسب. فسمَّمت العلاقة بين مصر وقطاع غزة. وأفسدت المناخ الإيجابي الذي لاح في الأفق بعد الثورة، الأمر الذي هيأ فرصة تصويب آثار التوتر الذي فرضه النظام السابق.

إذ ما إن وقعت الواقعة حتى أشاعت بعض الأبواق في مصر أن غزة لها صلة بالجريمة، رغم أن من الإسرائيليين ــ روني دانئيل معلق الشؤون العسكرية في القناة الإسرائيلية الثانية وألون بن دافيد معلق الشؤون العسكرية في القناة العاشرة مثلا ـ من أكد أنه لا يوجد لدى إسرائيل أي دليل يربط بين غزة وبين ما جرى في رفح.

شغلت الجريمة الرأي العام في مصر، وأسهم الشحن الإعلامي المضاد في تأليب الشعب المصري على الفلسطينيين،
وكانت هيئات التقدير الاستراتيجي في إسرائيل والأجهزة الأمنية المعنية قد اعتبرت أن بروز تعاطف المصريين مع الفلسطينيين بعد الثورة من شأنه يقيد حرية إسرائيل في القيام بأي عمليات عسكرية ضد قطاع غزة.
وهو هاجس تراجع نسبيا بعد وقوع الجريمة وحملات التعبئة المضادة للفلسطينيين التي ترتبت عليها.

ولا يقل أهمية عن ذلك أن وقوع الجريمة أربك السياسة الخارجية المصرية ووضعها في موقف حرج. ذلك أنه وفر ظرفا قلص من قدرة القيادة الجديدة في مصر على إعادة تقييم السياسة الخارجية وإعادة بلورتها على شكل مغاير لما كانت عليه في ظل النظام السابق.
وهو ما عبر عنه بشكل فج ودون مواربة وزير الخارجية الإسرائيلي أفيجدور ليبرمان حين قال إن مصر مطالبة بتعلم الدرس مما جرى في رفح لمواجهة أعدائها الحقيقيينوكان يقصد بإشارته المقاومة الفلسطينية في غزة.

لقد سارعت إسرائيل إلى توظيف الجريمة من خلال ابتزاز الرئيس الأمريكي باراك أوباما. إذ شرع ديوان نتنياهو في الاتصال بالقيادات الجمهورية والديمقراطية في الكونجرس، لمطالبة الرئيس الأمريكي بالضغط على القيادة المصرية ومطالبتها بعدم إحداث أي تغيير على السياسة التي كانت متبعة في ظل النظام السابق. خصوصا فيما تعلق بظروف الحصار والعلاقة مع حركة حماس أو حتى مع إيران.

وكانت الرسالة واضحة في أن المطلوب أن تظل السياسة الخارجية لنظام مبارك مستمرة بعد الثورة، بحيث تبقى أسيرة مربع «الاعتدال» المطلوب أمريكيا وإسرائيليا، ولا تتقدم بأي خطوة إلى الأمام.

(2)

خذ مثلا الضجة المثارة حول ما سُمى «بأخونة» الإعلام وتقييد حرية التعبير.
والمشكلة الأولى أثيرت بمناسبة قرار مجلس الشورى تعيين 50 رئيس تحرير جديدا للصحف القومية،
والثانية برزت بعد وقف بث إحدى القنوات الفضائية.
وهما القضيتان اللتان احتلتا حيزا واسعا من التغطية والتعليق والضجيج في مختلف وسائل الإعلام، في حين أن الأولى فرقعة أخطأت الهدف، والثانية مجرد زوبعة في فنجان.

بطبيعة الحال فإن المنطق المهني لا يقبل أن يتولى مجلس الشورى تعيين رؤساء تحرير الصحف القومية أو غير القومية،
كما أن أي عقل سياسي أو وطني لا يقبل فكرة أخونة الإعلام،

ولكن المشكلة الحقيقية لم تكن في القرار الذي اتخذته اللجنة المختصة بمجلس الشورى بخصوص التعيينات، لكنها تكمن في مبدأ اختصاص المجلس بهذه المهمة. وهو اختصاص نص عليه القانون، الذي اعتبر الصحف القومية مملوكة لذلك المجلس. الأمر الذي كان غطاء لسيطرة الحكومة والأجهزة الأمنية على الصحف القومية.

 لذلك فإنه حين طعن في ممارسة مجلس الشورى لذلك الاختصاص، فإن المحكمة الإدارية العليا وتقرير هيئة المفوضين رفضا الطعن، لأن ممارسته تمت في حدود التفويض القانوني.

لذلك فإن الإعلاميين حين وجهوا سهامهم إلى مجلس الشورى فإنهم أخطأوا الهدف، لأن المشكلة في القانون الذي خوله ذلك الاختصاص، وليست في المجلس الذي باشره. وهو ما يسوغ لنا أن نقول إن الضجيج الذي أثير شغل الناس بمعركة نخبوية مغلوطة.

مسألة الأخونة أيضا تبين أنها جزء من الكيد السياسي ولا أصل لها في الواقع. فرؤساء التحرير الذين تم تغييرهم ينتمي أغلبهم إلى النظام السابق، بمعنى أنهم كانوا جزءا منه، وأن اختيارهم تم بتزكية من جهاز أمن الدولة، وقد ظل وجودهم محل قبول ورضا من جانب الذين أثاروا الضجيج وأطلقوا عاصفة النقد.

صحيح أنني أستغرب الأسلوب الذي اتبع في محاولة تغييرهم، حين وضعت معايير لاختيار بدائلهم وفتح الباب لترشح من توسم في نفسه جدارة بشغل المنصب، وهو أمر غير مسبوق في المهنة، إلا إن ذلك كان اجتهادا في ممارسة الاختصاص بدا أقل سوءا من أن يتولى جهاز أمن الدولة ترشيح رؤساء التحرير.
إلا أن ما يهمني في الشق المتعلق بالأخونة أن المرشحين جميعا ــ 241 صحفيا ــ لم يكن بينهم عضو في جماعة الإخوان.
وكانت النتيجة أن الخمسين الذين وقع عليهم الاختيار لم يكن أحد منهم عضوا في الجماعة، بل إن منهم من نعرف أن لهم خصومة معها، ومنهم من كان زبونا في القناة التي تم إغلاقها.

كما أن الثورة على مجلس الشورى كانت نموذجا للمعركة الغلط، فإن إلغاء تصريح القناة بدا نموذجا للإجراء الغلط، الذي لا علاقة له بحرية التعبير التي هي الآن أوسع منها في أي عهد عرفته مصر في تاريخها الحديث.
ذلك أنني تمنيت أن تحاسب القناة أو غيرها من منابر الانفلات والتحريض الإعلاميين أمام القضاء وليس من خلال الأساليب البيروقراطية الملتوية (هيئة الاستثمار مثلا).

في هذا الصدد ينبغي أن نعترف بتداخل الخطوط بين حرية التعبير وبين سب رموز الحكم الراهن والحط من هيبة الدولة، الأمر الذي وضعنا بإزاء حالة من الانفلات الإعلامي الفج، الذي سمح مثلا بوصف رئيس الجمهورية بأنه جبان وعميل للأمريكان، كما سمح لمحرر القناة المذكورة بالإعلان عن إهدار دم رئيس الجمهورية، إلى غير ذلك من المواقف والعناوين التي يستحي المرء من ذكرها وحفلت بها صحف الإثارة التي أدارت ظهرها للثورة وتفرغت للكيد السياسي وإشغال الناس بالمعارك الوهمية والمغشوشة.

(3)

خذ أيضا مشكلة انقطاع التيار الكهربائي التي عانى منها ملايين المصريين في الأسبوع الماضي حتى أثارت غضبهم ونقمتهم، خصوصا حين تزامن ذلك مع موجة الحر وشهر الصيام.

ليس لدينا ما يدل على أن ذلك كان متعمدا، وأغلب الظن أنه تم لأسباب أخرى اجتمعت مع بعضها البعض في الآونة الأخيرة. منها ما تعلق بالتحميل الزائد وارتفاع معدلات الاستهلاك.
ومنها ما تعلق بحوادث سرقة الكابلات التي قرأت أنها هددت بإشاعة الإظلام في صعيد مصر كله.
 وربما منها أيضا ما تعلق بالنقص في المازوت المستورد المطلوب لتشغيل بعض المحطات، أو بالحاجة إلى الصيانة والإحلال والتجديد... الخ

أيا كان السبب فالشاهد أننا فوجئنا أخيرا بمشكلة فُرضت علينا ولم تكن في الحسبان. وقد قيل إن المشكلة كانت قائمة في بعض المحافظات الأخرى التي لم يكن صوتها مسموعا، لكنها حين ضربت القاهرة الكبرى علا صوت الاحتجاج مدويا في الفضاء المصري، حيث تجاوز أثرها نكد البيوت والتسبب في انقطاع المياه عن الطوابق العليا، وشمل تعطيل مترو الأنفاق وإيقاف تعاملات البورصة والبنوك.

ما يلفت النظر في هذا الصدد أن السلطات المعنية التزمت الصمت إزاء ما يجرى، وباستثناء تصريحات مبتسرة صدرت عن بعض المسؤولين ردا على أسئلة الإعلاميين، فإننا لم نجد مسؤولا كبيرا يخرج على الناس ويشرح لهم الحقيقة بصراحة وشفافية، ويعطيهم أملا في حل المشكلة في أجل يحدده. أو على الأقل يحدد لهم ما يستطيع أن يفعله وما يتجاوز قدراته
(النقص في موارد العملة الصعبة مثلا الذي يعطل الاستيراد من الخارج).

قل مثل ذلك في حوادث قطع الطرق، التي تفشت في الآونة الأخيرة. بحيث أصبح بمقدور أي جماعة من الغاضبين لأي سبب أن يجتمعوا فيما بينهم ويقرروا قطع الطريق العام لإيصال صوتهم إلى الذين لا يسمعونه.
ذلك غير الخارجين على القانون الذين باتوا يستسهلون قطع الطرق للاستيلاء على السيارات الفارهة أو على ما بحوزة العابرين. وهو ما أصبح يقلق كثيرين، خصوصا حيث يلاحظون أن الأمر لا يعالج بالجدية والحزم اللازمين.
ومن الجدية أن يشعر الناس بأن لديهم وسائل أخرى لإيصال أصواتهم والاستماع إلى مشاكلهم.
ومن الحزم أن تشدد عقوبة قطع الطرق إذا ما لزم الأمر، وأن تشترك القوات المسلحة في تأمينها.

(4)

لا أريد أن أقلل من شأن هذه المشكلات، لكنني أرجو ألا نختلف على اعتبارها مشكلات صغرى وفرعية إذا قورنت بالتحديات الكبرى التي انطلقت الثورة لمواجهتها والنهوض بها.
سواء تعلقت بالتنمية أو الحرية أو العدالة الاجتماعية.

 لذلك فأخشى ما أخشاه أن تستهلك المعارك الصغرى طاقتنا وتصرفنا عن خوض المعارك الكبرى.

 لا يقل عن ذلك سوءا أن يغرق الوطن في الاستقطاب بين القوى السياسية، الأمر الذي يقوض الإجماع الوطني ويشل القدرة على أي تقدم باتجاه تحقيق شيء من أهداف الثورة.

وإذ يتوجب علينا أن نتحلى بشجاعة ممارسة النقد الذاتي لتحديد مسؤولية كل طرف عن الارتباك والخلل الماثلين، فإننا أيضا لا نستطيع أن نعفي النظام السابق من المسؤولية عن تخريب وتدمير مؤسسات المجتمع وقواه الحية عبر ممارساته التي استمرت ثلاثين عاما. وهو ما أصابها بدرجات مختلفة من التشوّه والإعاقة.

ولست أشك في أن تلك الإعاقة تعد مصدرا أساسيا للحروب الأهلية الباردة المستعرة في مصر منذ قامت الثورة، الأمر الذي غذى شهوة الاقتتال وكاد يبدد الأمل في التوافق حول تحقيق حلم البناء والتقدم.

لقد بات الإنذار والتحذير واجبين، من أن الاقتتال الراهن لن يكون فيه منتصر ومهزوم، ولكن المحصلة التي قد تفاجئ الجميع أن الكل سيهزم في نهاية المطاف، والوطن أولهم.

وفي هذه الحالة لن نكون بحاجة إلى مؤامرة لإجهاض الثورة، لأن حروبنا الأهلية ستوفر للمتآمرين جهدهم وتحقق لهم مرادهم.

No comments:

Post a Comment