1 مارس 2012
تحرير التحرير – فهمي هويدي
المعلومة التي تلقاها الجهاز الأمني تحدثت عن وجود سلاح في إحدى خيام ميدان التحرير.
في اليوم التالي دخل إلى الخيمة اثنان من «الأطباء»، وبعد أن عرَّفا نفسيهما تحدثا مع الجالسين وفحصا بأعينهما المكان جيدا، لم يلاحظا وجودا لأي سلاح، لكن أحدهما وقعت عيناه على لفافة «بانجو» في ركن جانبي.
وتبادل النظرات مع واحد من الجالسين غمز بإحدى عينيه ورسم ابتسامة عريضة على وجهه. وبعد خروجهما أبلغا الجهاز الأمني بأن المعلومة غير صحيحة.
ويوم السبت الماضي نشرت جريدة الأهرام أن اشتباكا وقع بين مجموعة من البلطجية الذين اتخذوا من الميدان سكنا لهم وبين عدد من أصحاب المحال التجارية الذين انقطع رزقهم طوال العام الماضي.
وهو خبر تكرر أكثر من مرة في الآونة الأخيرة.
وكنت قد قمت بجولة في الميدان بمناسبة مرور عام على الثورة فهالني ما رأيت.
فقلت لمن كان معي إن هذه أنفس نهاية لأنبل مكان في الذاكرة المصرية المعاصرة.
لم أصدق عينيّ حين شاهدت الفوضى والقذارة وازدحام الباعة الجائلين. ولم تحتمل أذناي أصوات مكبرات الصوت التي تبث الأغاني الهابطة.
وأحزنني أنني لمحت طفلين نائمين بجوار أحد الجدران، وقد انكمشا والتصق جسدهما في محاولة للاحتماء من البرد.
وقفت مذهولا أمام أحد الباعة وقد انتحى جانبا وأقام «نصبة» لبيع الشاي وسط نصف دائرة من الكراسي المصنوعة من البلاستيك، وحول الركن إلى مقهى.
وحين لمحنا الرجل دعانا إلى الجلوس، وحاول إغراءنا قائلا إن لديه «نارجيلة» للزبائن «المحترمين».
ثم أضاف مازحا وغامزا أنه يضمن لنا أن نقضي وقتا ونحن في أعلى درجات «الانبساط». وحينذاك همس صاحبي في أذني قائلا إن الرجل يتاجر أيضا في المخدرات!
ما استغربت له أيضا أن ذلك كله يحدث في الميدان الذي جرى تشويه جدران المباني المطلة عليه، في حين لم أر أثرا للدولة فيه، لا شرطة ولا عمال للبلدية، حتى بدا لي أن الميدان لم يعد جزءا من جمهورية مصر العربية، وأن أيام مجده التي عشناها أصبحت جزءا من تاريخ غابر لزمن ولَّى وأُمَّة خَلَت.
قيل لي إن بعض أهالي ضحايا الثورة لا يزالون معتصمين بالميدان، لكنني لم أستطع أن أستدل عليهم، أغلب الظن لأن مظاهر الفوضى العارمة استأثرت بالانتباه.
غادرت المكان مغتما وسيل من الأسئلة الحائرة يرن في أذني.
لماذا أهين الميدان وابتذل إلى هذه الدرجة؟
وهل تركه بهذه الصورة البشعة وغياب الشرطة والبلدية عنه مجرد إهمال أم أنه مقصود لتنفير الناس واستفزازهم؟
وهل للثورة المضادة يد في الإبقاء عليه بحالته تلك؟
وأين الثوار «وائتلافاتهم» ولماذا لا يحاولون الدفاع عن كرامة الميدان وصورته المشرقة التي أضاءت وجدان الشعب المصري. بل الشعوب العربية كلها؟
وأين من هذا المنظر غيرة المحبين لهذا البلد والمدافعين عن قيمه الإيجابية ورموزه النبيلة؟
قبل أسابيع قررت الحكومة اليونانية تحت وطأة الضغوط الاقتصادية التي أوصلتها إلى شفا الإفلاس، أن تسمح باستخدام الآثار القديمة في النشاط الخاص، أملا في أن يوفر ذلك للدولة موارد تمكنها من التخفيف من وطأة الأزمة الخانقة، إلا أن المثقفين شنوا حملة ضد قرار الحكومة، واتهموها بالتفريط في شرف بلادهم و«مقدساتها» التاريخية. واعتبروا تلك الآثار من «الثوابت» الوطنية التي لا ينبغي المساس بها أو ابتذالها تحت أي ظرف. كأنما رفعوا شعار تجوع الحرة ولا تهين تاريخها الذي هو جزء من عِرْضها.
تمثلت هذه الخلفية وقلت:
ألم يعد ميدان التحرير بعد الثورة رمزاً لحيوية الشعب المصري وعزته؟
وألم يعد علامة فارقة في تاريخ هذا البلد. يستحق أن نجلَّه ونحوله إلى أيقونة محاطة بمشاعر التقدير والاحترام، بدلا من أن يصبح رمزا للعبث والفوضى والقذارة؟
لا أستطيع أن أحسن الظن بترك الميدان وغياب الدولة عنه. وأزعم أن سكوت أجهزة السلطة أيا كانت دوافعها في ذلك، لا ينبغي أن يقابل بسكوت مماثل من جانب الثوار وكل القوى الوطنية في مصر.
على الأقل فمطلوب من الآخرين أن يقوموا بفرز المنتسبين للثورة أو ضحايا حوادثها، عن البلطجية والعاطلين وتجار المخدرات.
إننا نريد أن نحتفظ برمزية الميدان اعتزازا بثورة المصريين واحتراما للذاكرة الوطنية، ولا نتمنى أن يصبح مصير ميدان التحرير مماثلا لما انتهت إليه قناة التحرير
No comments:
Post a Comment