محمد عبد المجيد
رئيس تحرير مجلة طائر الشمال
أوسلو في 29 مايو 2011
Taeralshmal@gmail.com
رئيس تحرير مجلة طائر الشمال
أوسلو في 29 مايو 2011
Taeralshmal@gmail.com
عندما يسقط طاغيةٌ أو يموت تتوزع روحُه علىَ رجالِه، وكلابِه، وخَدَمِه، وأتباعِه، فيدافعون عنه في غيابِه كأنه حاضرٌ أمامهم، ويركعون لخيالـِه، ويتوهمون أنه عائدٌ إليهم حتى لو أقسم لهم دودُ الأرضِ أنه لم تَعُدْ فيه ذرةٌ تؤكل!
في مصر لا تزال رأسُ الأفعىَ تستلقى علىَ فِراشٍ أبيض في منتجعٍ سياحي، لكن ذيولَها تتناثر في السجون والمعتقلات والقصور ومؤسسات حكومية ونقاباتٍ وجامعاتٍ ومراكز صناعةِ البلطجية وأصحاب السوابق.
أول انطباع جيّد قبل وصولي لمصر في أول زيارةٍ بعد أحد عشر عاما من الغياب كان في منتدىَ الأدباء بالعاصمة النرويجية الذي استضاف مجموعةً من شباب ثورة يناير الذين تلقوا الدعوةَ من وزارة الخارجية في أوسلو، وختم أحدُهم، ويُدْعىَ جمال حمدان، الندوةَ قائلاً بأنَّ عصرَ بيع الغاز والبترول بغير السعر العالمي انتهى.
في مصر بعد الثورةِ أفكارٌ تتضارب، وتتدافع، وتتسابق للوصول إلى صانع قرارٍ لم يوجد بَعْدُ.
في مصر بعد الثورة يتنفس المصريون حريةً لا يُصدق أيٌّ منهم أنَّ رئتيه تسعان هذا الكمَ الهائلَ من الهواء النقي.. أعني غيابَ التلوث القمعي للسان والذي خيّم علىَ حياةِ المصريين في عهد اللص والأربعين ألف حرامي، فلم تكن تستطع أن تميّز بين السحابة السوداء و .. بين عتمة الاستبداد.
مصرُ بعد الثورة تنجب في الدقيقة سبعين ألف فكرة واقتراح ورأي وحُلم، لكنها تتبخر في الهواء، فالثورة تحتاج إلى قائد، ومزاد القادة الذين يرفعون أيديهم ترشحاً لانتخابات رئاسية يشبه مزادَ بيع الخُردة في سوق الجمعة، وأكبرهم يُغرقه طرفُ جِلبابِ أمة من أعرق أمم الأرض، فكيف بجلباب الوطن كله؟
فكرةُ ( صندوق الأفكار ) التي طرحها المناضل الدكتور أسامة رشدي قد تكون حلاً مِثالياً لحصر كل المقترحات والأفكار، ثم الدفع بها لاحقاً إلىَ الجهة التي تتولى اخراجَها إلىَ الواقع و .. النور.
في مصر لا تزال رأسُ الأفعىَ تستلقى علىَ فِراشٍ أبيض في منتجعٍ سياحي، لكن ذيولَها تتناثر في السجون والمعتقلات والقصور ومؤسسات حكومية ونقاباتٍ وجامعاتٍ ومراكز صناعةِ البلطجية وأصحاب السوابق.
أول انطباع جيّد قبل وصولي لمصر في أول زيارةٍ بعد أحد عشر عاما من الغياب كان في منتدىَ الأدباء بالعاصمة النرويجية الذي استضاف مجموعةً من شباب ثورة يناير الذين تلقوا الدعوةَ من وزارة الخارجية في أوسلو، وختم أحدُهم، ويُدْعىَ جمال حمدان، الندوةَ قائلاً بأنَّ عصرَ بيع الغاز والبترول بغير السعر العالمي انتهى.
في مصر بعد الثورةِ أفكارٌ تتضارب، وتتدافع، وتتسابق للوصول إلى صانع قرارٍ لم يوجد بَعْدُ.
في مصر بعد الثورة يتنفس المصريون حريةً لا يُصدق أيٌّ منهم أنَّ رئتيه تسعان هذا الكمَ الهائلَ من الهواء النقي.. أعني غيابَ التلوث القمعي للسان والذي خيّم علىَ حياةِ المصريين في عهد اللص والأربعين ألف حرامي، فلم تكن تستطع أن تميّز بين السحابة السوداء و .. بين عتمة الاستبداد.
مصرُ بعد الثورة تنجب في الدقيقة سبعين ألف فكرة واقتراح ورأي وحُلم، لكنها تتبخر في الهواء، فالثورة تحتاج إلى قائد، ومزاد القادة الذين يرفعون أيديهم ترشحاً لانتخابات رئاسية يشبه مزادَ بيع الخُردة في سوق الجمعة، وأكبرهم يُغرقه طرفُ جِلبابِ أمة من أعرق أمم الأرض، فكيف بجلباب الوطن كله؟
فكرةُ ( صندوق الأفكار ) التي طرحها المناضل الدكتور أسامة رشدي قد تكون حلاً مِثالياً لحصر كل المقترحات والأفكار، ثم الدفع بها لاحقاً إلىَ الجهة التي تتولى اخراجَها إلىَ الواقع و .. النور.
أرسلتُ قبل الوصول للقاهرة رسالةً إلى الدكتور عصام شرف مُمنياً النفس بلقاءٍ أعرض فيه مساهماتي الفكريةَ فيما بعد نجاح الثورة، وكتبت لرئيسِ الوزراء عن رغبتي الشديدة في عَرْض اقتراحي عليه وهو عن انتخابات مجلس الشعب، ولكن جاءت أحداثُ إمبابة الطائفية، ولم تُتح لي الفرصة لعرض رؤيتي، رغم أنني عرضتها بالتفصيل على شباب الثورة الذين استحسنوها، ورأوا فيها مَخرجا آمناً من عنق الزجاجة، وحلا وحيدا ينقذ مصرَ من العودة إلىَ عهد مبارك ولو غاب الطاغيةُ وكلُ أركانِ حُكمه البائد.
ثورة يناير الشبابية غيّرت مفاهيمَ، وقَلَبَتْ موازينَ، وأيقظت نائمين، ودفعتْ بالشجاعةِ إلىَ صدور المترددين والخائفين.
كان سوسُ نظامِ مبارك ينخر في كل شبر من أرض مصر الطاهرة، وكان الرجلُ قادراً على زرع كل كارهي شعبه في مؤسسات الدولة وهيئاتها وفروعها، فنهبُ الوطن المسكين كان عمليةً ممنهجةً عثر لها الديكتاتورُ خلال ثلاثة عقود علىَ رؤوس عَفَنْ ونَتَنٍ لم تكن لها أن تُطل على خيرات مصر بغير مبارك وزوجته وولديه.
لهذا فالراصدُ لمصر بعد الثورةِ سيعثر بسهولةٍ علىَ جبال من الكراهية يحملها كلُّ مصري للعهد البائد برُمته.
منذ سنوات نشرت مقالي ( لماذا أكره الرئيس حسني مبارك) ثم أعقبته بآخر ( الله يخرب بيتك يا ريّس )، وتلقيت عدداً هائلا من الاستفسارات عن سبب تجذُّر تلك الكراهية في صدري وقلبي لتنعكس على قلمٍ لم يعد يرى في مصر غيرَ طاغيتـِها.
وفي زيارتي هذه المرة اكتشفتُ أنَّ المصريين يتنفسون كراهيةً ضد أفسد طـُغاة العصر، فاستوقفني رجلٌ في مقتبل العُمر وكان يقرأ بجوار كُشْك لبائع صحف عن عمليات النهب فتكرمشت الصحيفةُ بين يديه وهو يصيح، وينتفض، ثم ينظر إلى السماء داعياً الله أن يلعن مبارك وعائلتـَه ورجالـَه، وكأنني أسمع كلماتي في مقال ( الله يخرب بيتك يا ريّس ).
عبقريةُ الثورةِ في أنها جعلتْ، فِعلياً وعَمَلياً وواقعياً، الكبارَ صغاراً، والصغارَ كباراً، وأضحى كلُّ من يمسك القلمَ أو يطل من الشاشة الصغيرة أو يترأس ندوة خبيرا في التقرب للثوار الشباب، يجاملهم، وينافقهم، ويلتصق بشعاراتهم، ويزعم أنه نام في ميدان التحرير ثمانية عشر يوما حتى أعلن عمر سليمان أن الرئيس تنحى عن السلطة، فالتنحي رغبة، والخلع اجبار، فأرادوا أن يحفظوا له كرامةً حَرَمَ الشعبَ منها، وأن يخفوا مشهد سلاح الطيران من آثاره، لكن المستفيدين من عهده الأغبر كانوا دائما يُصرّون على الضربة الجوية الأولى .. والحمد لله أنهم لم يقولوا الوحيدة!
ثورة الشباب لم تخلع الطاغية بدون ثمن، فمئات الشهداء كانوا في ربيع أعمارهم، وتنتظرهم أمهات فخورات، وآباء يعتذرون أنهم لم يستطيعوا أن يواجهوا قمع الطاغية إلا بصمت وصبر وخوف وفزع خشية أن تسمع أجهزة الأمن نبضات قلوبهم أو تتطلع على أحلامهم.
ثورة الشباب أمسكت الوطن، ثم نزعت بثورَ المسكنة والمذلة والمهانة التي غرسها في الجسد الطاهر نظام ما كان لإبليس أن ينحني لمنافس له كما فعل مع حسني مبارك، ثم وضعت الثورةُ أجنحةً مكان البثور، وأطلقت مصرَ من عقالها، وفكَّت قيدَها، ومسحت بأصابعِها الطاهرة على موضع الخوف والجـُبن والتوجس والتردد، فحلـَّت العقدةَ عن اللسان، ورسمت مستقبلا مشرقا ولو بعد حين.
شاهدت في زيارتي مصر العزةَ والكرامة، وعيونا تبرق، ثم ترسل اشعاعات تجعل الحائرين يبصرون طريقا أو طرقا خلت تماما من آثار عهد مبارك.
ولكن هل كان المشهد كله ايجابياً؟
قطعا لا، فصدمة الحرية تحولت إلى حيرة، فالحرية التي لا يتلقفها زعيم ليجعل منها برنامجاً لتأسيس نظام ليبرالي، وديمقراطي، ومستقل عن أي تبعية خارجية أو رأسمال غير وطني تصبح حرية ناقصة، أو حرية ساكنة وغير مؤثرة.
والكبار الموجودون على الساحة هم وجوه قديمة بأقنعة مزيفة! إنهم عواجيز أصيبوا بشلل فكري وعاطفي ووطني في عهد الطاغية، فزعموا في عهد الثورة أن شبابهم أعيد إليهم، وأن أفكارهم تم تجديدها، أو ترقيعها، أو تبييضها، أو ازالة الأوساخ التي عَلَقَتْ بها.
الثوار يبحثون في مصر ( الولاّدة) التي تُخرج أرضها أنبياءَ غير مرسَلين، وعباقرة يتم وأدُ رؤوسهم كلما أطلوا على الشعب ومعهم حلول ناجعة لكل أزماته وأوجاعه، لكن سارقي الثورة يتناثرون في كل مؤسسة وحزب وصحيفة ووسائل اعلامية لا تزال تتنفس مباركياً ولو ألقت قصائدَ غزل ومديح وثناء واطراء في الثوار .. الشباب!
نجحت ثورة 25 يناير في 11 فبراير، ونجحت انتفاضة الثورة في 27 مايو بفضل الروح المصرية الطاهرة لشباب لم يتحزبوا، ولم يتمذهبوا، ولم يتعلموا التمييز بين أفراد الشعب على أسس طائفية وطبقية، فاهتزت مصر بروعة وطنيتهم، واختبأ الوصوليون في مقارهم الجديدة لأنهم، على حد زعمهم، ضد انتقاد المجلس العسكري!
الخطوة هي الشعب يريد اسقاط روح النظام!
روح النظام البائد في الفساد، وغلاء الأسعار، والاحتكار، وسطوة رأس المال، ونهب أراضي الدولة، والعدالة البطيئة، والانفلات الأمني، والخوف من البلطجية، ومئات .. وآلاف من السلبيات التي غرسها مبارك ولا يمكن للثورة أن تزيلها، أو تمسحها، أو تلغيها بدون تعاون كل المصريين.
ر أيت مصر كما لم أرها من قبل، واطمأن قلبي على مستقبلها فهو في أيدي أصحابها .. أعني شباباً أقسم أن يُقدمها لجيل قادم طاهرةً .. نقية.. قوية.. عزيزة .. يحترمها المجتمع الدولي، وترفع بثورتِها رؤوس العرب في كل المحافل والمؤتمرات.
متفائل بكل المعايير، لكنني متشائم إذا استمر العمل بالنظام المتخلف، الغوغائي والبدائي والفاسد لانتخابات الدوائر التي ستفرز مجلس شعب جديد تحلق تحت قبته روح أحمد فتحي سرور ولو حمل المطرقةَ رئيسٌ آخر من العهد الجديد.
المشهد المصري سيزداد اشراقا بفضل الله، فالثورة الشبابية مستمرة، ومصر ستتخطى عنق الزجاجة، لكن مجلس الشعب القادم سيعيدها إلى نقطة الصفر.
فكرتي التي عرضتها مرات كثيرة، وفي مقال حمل عنوان ( مجلس الشعب الذي أحلم به) ، وأرسلت للدكتور عصام شرف طالبا لقاءً لمناقشتها تقوم على الغاء الانتخابات نهائيا، فالمرشَح الذي سيحصد النجاح هو من يملك المال، والتأثير على المواطن العادي، ويعرفه أبناء دائرة ضيقة، ويستطيع أن يجمع محاسيب، ووسطاء، ومنافقين، ومصفقين، ومرتشين.
نظام الانتخابات المعمول به هو ثورة مضادة لكل قيم الحق، والعدالة، والتطور، والتمدن، والمساواة، والتسامح.
إنه نظام يُلغي العباقرة، والعلماء، والمثقفين المهمومين بالوطن لأنهم ليسوا الأكثر شعبية بين العوام، ولا يعرفهم إلا الصفوة، ولا يطلع على عقولهم إلا النخبة، ولو قضى العالِم الموسوعي الأكاديمي عُمره في المعمل أو المختبر أو البحث العلمي لما تمكن من شراء شقة لابنته العروس أو عمل عَمْرة لسيارته القديمة، فكيف ينفق مليونين أو ثلاثة ملايين من الجنيهات الأخف من أوراق شجر في الخريف على حملة انتخابية؟
نظام لتأصيل الفساد، واعادة عجلة التطور إلى ذيل ركب الأمم المتقدمة، وقتل ثورة الشباب في الحرم الديمقراطي.
قضيتي كانت في العشرين عاما الماضية هي لف الحبل حول عنق مبارك، أما الآن فهي الدفاع عن ثورة الشباب ومنجزاتها بجمعة مليونية من أجل مجلس شعب يجعل السلطة التشريعية أعظم انجاز في تاريخ مصر المستقبلي.
في زيارتي عرفت قَدْري لدىَ شباب الثورة، وأتلقى رسائل دفء منهم كأنني أقرب إليهم من حبل الوريد رغم المسافة المكانية والزمنية، لذا فإن تفاؤلي بجمعة مليونية من أجل رؤيتي لانتخابات مجلس الشعب لا ريب فيه.
تتقدم كل نقابة ومؤسسة و هيئة تعليمية و ثقافية واتحاد طلابي وأكاديمي وتخصصي و ... باثنين من أفضل من ينتسبون إليها، ثقافة، وعلما، ونزاهة، وفكرا، وابداعا، وشجاعة أدبية، ومعرفة بتاريخ وجغرافيا وأزمات ومشاكل وقضايا وهموم المجتمع بغض النظر عن الدين، والمذهب، والحزب، والتجمع، والايديولوجية، والجنس، ذكرا كان أم أنثى، والحياة الخاصة.
يتجمع لدينا عدة آلاف من أفضل من أنجبتهم مصر، ثم تختار لجنة محايدة ألفين منهم، وتستبعد آلافا يصلح كل منهم أن يكون موسوعة متحركة.
ثم تأتي لجنة ثقافة فكرية محايدة أخرى، وتستبعد ألفا من الألفين.
ثم تأتي اللجنة الأخيرة لتصفية عباقرة الوطن، وتختار أعضاء مجلس الشعب، شريطة أن لا يكتب أحد في ملفه عن دينه، ومذهبه، وحزبه.
هنا تكون مصر أمام ممثلي الأمة، لا أقلية، ولا أغلبية، ولا يعرف عضو عن الاثنين المجاورين غير أنهما مصريان في السلطة التشريعية.
هنا تستطيع مصر أن تقفز برلمانيا، وتشريعيا، وتضع قوانين متطورة، وتلغي قوانين مقيدة، ومتخلفة، كانت تعيد مصر خطوتين إلى الخلف كلما تقدمت خطوة إلى الأمام على استحياء.
أبحث عن ( جمعة مليونية) يتبناها شباب الثورة، وتـُنهي إلى غير رجعة نظام مجلس الشعب المتعارَف عليه .. النظام الذي لو استمر العمل به في الانتخابات التشريعية القادمة فإنه سيكون رأس حربة ضد ثورتنا الشبابية الطاهرة.
زيارتي لمصر جعلتني أشعر بالاثنين معاً: الفخر بالثورة و .. الخوف عليها.
فرحتي بانتصار الثوار الشباب ستنقلب حزنا لو سرق البرلمانيون الهمجيون روحَ الثورة تحت قبة الحرم الديمقراطي.
مصر على المحك، والاختبار، وخبث الثورة المضادة، وعودة أعضاء الكيف، والتهريب، والقروض، والنوم على المقاعد، والأمية، والجهل بقضايا مصر، وهم يتأهبون بأموالهم، ومعارفهم، وقبائلهم، وأحزابهم، وشعاراتهم المدغدغة لمشاعر العامة لسرقة ميدان التحرير باسم السلطة التشريعية.
يا شباب الثورة إني لكم ناصح أمين، فتأملوا في رؤيتي، وتدارسوا اقتراحي، وتأكدوا من أن خوفي على ثورتكم ليس أقل من خوفكم عليها، وحرصكم على انجازاتها واستمرارها.
انتخابات مجلس الشعب بالطريقة المزمع عقدها ستكون سكاكين حادة في قلب الثورة، وهؤلاء ليسوا ممثلي الشعب، لكنهم ممثلو دوائر سيطرت عليها شعارات هلامية، وغوغائية، وغير واقعية، ينبت في أطرافها التطرف، والتحزب، والمصالح الضيقة والخاصة.
الطريق إلى الجنة المصرية يمر عبر مقاعد مجلس الشعب، والطريق إلى جحيم مستعر يمر أيضا تحت قبة البرلمان، فاختاروا أحد الطريقين لممثلي الأمة، وواضعي التشريعات، والقوانين، والمراقبة.
إنها ( جمعة مليونية من أجل مجلس الشعب الجديد)، قد تكلفكم ساعات في ميادين مصر، وكل منها ميدان التحرير، لكنها ستنقل وطننا إلى مصاف الأمم المتقدمة.
مجلس الشعب الجديد، كما أقترحه وأحلم به، يوافق أو يعترض على وزير ومحافظ ومعاهدة واتفاق وسلام وحرب ونظام مصارف وتصدير غاز وبترول وسد الثغرات في كل قوانين أعادت مصر إلى الخلف.
مجلس الشعب، كما أحلم به، لن نحتاج في وجوده إلى غضبة أخرى، ( إلا إذا ظنت أي قوى أنكم استكنتم، أو تراجعتم عن مطالبكم، أو عاد الخوف إلا القلوب) فهو سيغضب لنا، ويصحح مسيرة الثورة، وينهي عصر خصومها.
ياشباب الثورة الأطهار،
تلقفوا، يرحمكم الله، هذا الاقتراحَ، وضُمّوه إلى عقولكم، ثم إلى صدوركم، ثم إلى جمعة مليونية تنهي أحلام مُرشحي الغوغائية والأمية والوصولية إلى السلطة التشريعية.
وإلى المشهد الثالث من زيارتي ...
وسلام الله على مصر.
ثورة يناير الشبابية غيّرت مفاهيمَ، وقَلَبَتْ موازينَ، وأيقظت نائمين، ودفعتْ بالشجاعةِ إلىَ صدور المترددين والخائفين.
كان سوسُ نظامِ مبارك ينخر في كل شبر من أرض مصر الطاهرة، وكان الرجلُ قادراً على زرع كل كارهي شعبه في مؤسسات الدولة وهيئاتها وفروعها، فنهبُ الوطن المسكين كان عمليةً ممنهجةً عثر لها الديكتاتورُ خلال ثلاثة عقود علىَ رؤوس عَفَنْ ونَتَنٍ لم تكن لها أن تُطل على خيرات مصر بغير مبارك وزوجته وولديه.
لهذا فالراصدُ لمصر بعد الثورةِ سيعثر بسهولةٍ علىَ جبال من الكراهية يحملها كلُّ مصري للعهد البائد برُمته.
منذ سنوات نشرت مقالي ( لماذا أكره الرئيس حسني مبارك) ثم أعقبته بآخر ( الله يخرب بيتك يا ريّس )، وتلقيت عدداً هائلا من الاستفسارات عن سبب تجذُّر تلك الكراهية في صدري وقلبي لتنعكس على قلمٍ لم يعد يرى في مصر غيرَ طاغيتـِها.
وفي زيارتي هذه المرة اكتشفتُ أنَّ المصريين يتنفسون كراهيةً ضد أفسد طـُغاة العصر، فاستوقفني رجلٌ في مقتبل العُمر وكان يقرأ بجوار كُشْك لبائع صحف عن عمليات النهب فتكرمشت الصحيفةُ بين يديه وهو يصيح، وينتفض، ثم ينظر إلى السماء داعياً الله أن يلعن مبارك وعائلتـَه ورجالـَه، وكأنني أسمع كلماتي في مقال ( الله يخرب بيتك يا ريّس ).
عبقريةُ الثورةِ في أنها جعلتْ، فِعلياً وعَمَلياً وواقعياً، الكبارَ صغاراً، والصغارَ كباراً، وأضحى كلُّ من يمسك القلمَ أو يطل من الشاشة الصغيرة أو يترأس ندوة خبيرا في التقرب للثوار الشباب، يجاملهم، وينافقهم، ويلتصق بشعاراتهم، ويزعم أنه نام في ميدان التحرير ثمانية عشر يوما حتى أعلن عمر سليمان أن الرئيس تنحى عن السلطة، فالتنحي رغبة، والخلع اجبار، فأرادوا أن يحفظوا له كرامةً حَرَمَ الشعبَ منها، وأن يخفوا مشهد سلاح الطيران من آثاره، لكن المستفيدين من عهده الأغبر كانوا دائما يُصرّون على الضربة الجوية الأولى .. والحمد لله أنهم لم يقولوا الوحيدة!
ثورة الشباب لم تخلع الطاغية بدون ثمن، فمئات الشهداء كانوا في ربيع أعمارهم، وتنتظرهم أمهات فخورات، وآباء يعتذرون أنهم لم يستطيعوا أن يواجهوا قمع الطاغية إلا بصمت وصبر وخوف وفزع خشية أن تسمع أجهزة الأمن نبضات قلوبهم أو تتطلع على أحلامهم.
ثورة الشباب أمسكت الوطن، ثم نزعت بثورَ المسكنة والمذلة والمهانة التي غرسها في الجسد الطاهر نظام ما كان لإبليس أن ينحني لمنافس له كما فعل مع حسني مبارك، ثم وضعت الثورةُ أجنحةً مكان البثور، وأطلقت مصرَ من عقالها، وفكَّت قيدَها، ومسحت بأصابعِها الطاهرة على موضع الخوف والجـُبن والتوجس والتردد، فحلـَّت العقدةَ عن اللسان، ورسمت مستقبلا مشرقا ولو بعد حين.
شاهدت في زيارتي مصر العزةَ والكرامة، وعيونا تبرق، ثم ترسل اشعاعات تجعل الحائرين يبصرون طريقا أو طرقا خلت تماما من آثار عهد مبارك.
ولكن هل كان المشهد كله ايجابياً؟
قطعا لا، فصدمة الحرية تحولت إلى حيرة، فالحرية التي لا يتلقفها زعيم ليجعل منها برنامجاً لتأسيس نظام ليبرالي، وديمقراطي، ومستقل عن أي تبعية خارجية أو رأسمال غير وطني تصبح حرية ناقصة، أو حرية ساكنة وغير مؤثرة.
والكبار الموجودون على الساحة هم وجوه قديمة بأقنعة مزيفة! إنهم عواجيز أصيبوا بشلل فكري وعاطفي ووطني في عهد الطاغية، فزعموا في عهد الثورة أن شبابهم أعيد إليهم، وأن أفكارهم تم تجديدها، أو ترقيعها، أو تبييضها، أو ازالة الأوساخ التي عَلَقَتْ بها.
الثوار يبحثون في مصر ( الولاّدة) التي تُخرج أرضها أنبياءَ غير مرسَلين، وعباقرة يتم وأدُ رؤوسهم كلما أطلوا على الشعب ومعهم حلول ناجعة لكل أزماته وأوجاعه، لكن سارقي الثورة يتناثرون في كل مؤسسة وحزب وصحيفة ووسائل اعلامية لا تزال تتنفس مباركياً ولو ألقت قصائدَ غزل ومديح وثناء واطراء في الثوار .. الشباب!
نجحت ثورة 25 يناير في 11 فبراير، ونجحت انتفاضة الثورة في 27 مايو بفضل الروح المصرية الطاهرة لشباب لم يتحزبوا، ولم يتمذهبوا، ولم يتعلموا التمييز بين أفراد الشعب على أسس طائفية وطبقية، فاهتزت مصر بروعة وطنيتهم، واختبأ الوصوليون في مقارهم الجديدة لأنهم، على حد زعمهم، ضد انتقاد المجلس العسكري!
الخطوة هي الشعب يريد اسقاط روح النظام!
روح النظام البائد في الفساد، وغلاء الأسعار، والاحتكار، وسطوة رأس المال، ونهب أراضي الدولة، والعدالة البطيئة، والانفلات الأمني، والخوف من البلطجية، ومئات .. وآلاف من السلبيات التي غرسها مبارك ولا يمكن للثورة أن تزيلها، أو تمسحها، أو تلغيها بدون تعاون كل المصريين.
ر أيت مصر كما لم أرها من قبل، واطمأن قلبي على مستقبلها فهو في أيدي أصحابها .. أعني شباباً أقسم أن يُقدمها لجيل قادم طاهرةً .. نقية.. قوية.. عزيزة .. يحترمها المجتمع الدولي، وترفع بثورتِها رؤوس العرب في كل المحافل والمؤتمرات.
متفائل بكل المعايير، لكنني متشائم إذا استمر العمل بالنظام المتخلف، الغوغائي والبدائي والفاسد لانتخابات الدوائر التي ستفرز مجلس شعب جديد تحلق تحت قبته روح أحمد فتحي سرور ولو حمل المطرقةَ رئيسٌ آخر من العهد الجديد.
المشهد المصري سيزداد اشراقا بفضل الله، فالثورة الشبابية مستمرة، ومصر ستتخطى عنق الزجاجة، لكن مجلس الشعب القادم سيعيدها إلى نقطة الصفر.
فكرتي التي عرضتها مرات كثيرة، وفي مقال حمل عنوان ( مجلس الشعب الذي أحلم به) ، وأرسلت للدكتور عصام شرف طالبا لقاءً لمناقشتها تقوم على الغاء الانتخابات نهائيا، فالمرشَح الذي سيحصد النجاح هو من يملك المال، والتأثير على المواطن العادي، ويعرفه أبناء دائرة ضيقة، ويستطيع أن يجمع محاسيب، ووسطاء، ومنافقين، ومصفقين، ومرتشين.
نظام الانتخابات المعمول به هو ثورة مضادة لكل قيم الحق، والعدالة، والتطور، والتمدن، والمساواة، والتسامح.
إنه نظام يُلغي العباقرة، والعلماء، والمثقفين المهمومين بالوطن لأنهم ليسوا الأكثر شعبية بين العوام، ولا يعرفهم إلا الصفوة، ولا يطلع على عقولهم إلا النخبة، ولو قضى العالِم الموسوعي الأكاديمي عُمره في المعمل أو المختبر أو البحث العلمي لما تمكن من شراء شقة لابنته العروس أو عمل عَمْرة لسيارته القديمة، فكيف ينفق مليونين أو ثلاثة ملايين من الجنيهات الأخف من أوراق شجر في الخريف على حملة انتخابية؟
نظام لتأصيل الفساد، واعادة عجلة التطور إلى ذيل ركب الأمم المتقدمة، وقتل ثورة الشباب في الحرم الديمقراطي.
قضيتي كانت في العشرين عاما الماضية هي لف الحبل حول عنق مبارك، أما الآن فهي الدفاع عن ثورة الشباب ومنجزاتها بجمعة مليونية من أجل مجلس شعب يجعل السلطة التشريعية أعظم انجاز في تاريخ مصر المستقبلي.
في زيارتي عرفت قَدْري لدىَ شباب الثورة، وأتلقى رسائل دفء منهم كأنني أقرب إليهم من حبل الوريد رغم المسافة المكانية والزمنية، لذا فإن تفاؤلي بجمعة مليونية من أجل رؤيتي لانتخابات مجلس الشعب لا ريب فيه.
تتقدم كل نقابة ومؤسسة و هيئة تعليمية و ثقافية واتحاد طلابي وأكاديمي وتخصصي و ... باثنين من أفضل من ينتسبون إليها، ثقافة، وعلما، ونزاهة، وفكرا، وابداعا، وشجاعة أدبية، ومعرفة بتاريخ وجغرافيا وأزمات ومشاكل وقضايا وهموم المجتمع بغض النظر عن الدين، والمذهب، والحزب، والتجمع، والايديولوجية، والجنس، ذكرا كان أم أنثى، والحياة الخاصة.
يتجمع لدينا عدة آلاف من أفضل من أنجبتهم مصر، ثم تختار لجنة محايدة ألفين منهم، وتستبعد آلافا يصلح كل منهم أن يكون موسوعة متحركة.
ثم تأتي لجنة ثقافة فكرية محايدة أخرى، وتستبعد ألفا من الألفين.
ثم تأتي اللجنة الأخيرة لتصفية عباقرة الوطن، وتختار أعضاء مجلس الشعب، شريطة أن لا يكتب أحد في ملفه عن دينه، ومذهبه، وحزبه.
هنا تكون مصر أمام ممثلي الأمة، لا أقلية، ولا أغلبية، ولا يعرف عضو عن الاثنين المجاورين غير أنهما مصريان في السلطة التشريعية.
هنا تستطيع مصر أن تقفز برلمانيا، وتشريعيا، وتضع قوانين متطورة، وتلغي قوانين مقيدة، ومتخلفة، كانت تعيد مصر خطوتين إلى الخلف كلما تقدمت خطوة إلى الأمام على استحياء.
أبحث عن ( جمعة مليونية) يتبناها شباب الثورة، وتـُنهي إلى غير رجعة نظام مجلس الشعب المتعارَف عليه .. النظام الذي لو استمر العمل به في الانتخابات التشريعية القادمة فإنه سيكون رأس حربة ضد ثورتنا الشبابية الطاهرة.
زيارتي لمصر جعلتني أشعر بالاثنين معاً: الفخر بالثورة و .. الخوف عليها.
فرحتي بانتصار الثوار الشباب ستنقلب حزنا لو سرق البرلمانيون الهمجيون روحَ الثورة تحت قبة الحرم الديمقراطي.
مصر على المحك، والاختبار، وخبث الثورة المضادة، وعودة أعضاء الكيف، والتهريب، والقروض، والنوم على المقاعد، والأمية، والجهل بقضايا مصر، وهم يتأهبون بأموالهم، ومعارفهم، وقبائلهم، وأحزابهم، وشعاراتهم المدغدغة لمشاعر العامة لسرقة ميدان التحرير باسم السلطة التشريعية.
يا شباب الثورة إني لكم ناصح أمين، فتأملوا في رؤيتي، وتدارسوا اقتراحي، وتأكدوا من أن خوفي على ثورتكم ليس أقل من خوفكم عليها، وحرصكم على انجازاتها واستمرارها.
انتخابات مجلس الشعب بالطريقة المزمع عقدها ستكون سكاكين حادة في قلب الثورة، وهؤلاء ليسوا ممثلي الشعب، لكنهم ممثلو دوائر سيطرت عليها شعارات هلامية، وغوغائية، وغير واقعية، ينبت في أطرافها التطرف، والتحزب، والمصالح الضيقة والخاصة.
الطريق إلى الجنة المصرية يمر عبر مقاعد مجلس الشعب، والطريق إلى جحيم مستعر يمر أيضا تحت قبة البرلمان، فاختاروا أحد الطريقين لممثلي الأمة، وواضعي التشريعات، والقوانين، والمراقبة.
إنها ( جمعة مليونية من أجل مجلس الشعب الجديد)، قد تكلفكم ساعات في ميادين مصر، وكل منها ميدان التحرير، لكنها ستنقل وطننا إلى مصاف الأمم المتقدمة.
مجلس الشعب الجديد، كما أقترحه وأحلم به، يوافق أو يعترض على وزير ومحافظ ومعاهدة واتفاق وسلام وحرب ونظام مصارف وتصدير غاز وبترول وسد الثغرات في كل قوانين أعادت مصر إلى الخلف.
مجلس الشعب، كما أحلم به، لن نحتاج في وجوده إلى غضبة أخرى، ( إلا إذا ظنت أي قوى أنكم استكنتم، أو تراجعتم عن مطالبكم، أو عاد الخوف إلا القلوب) فهو سيغضب لنا، ويصحح مسيرة الثورة، وينهي عصر خصومها.
ياشباب الثورة الأطهار،
تلقفوا، يرحمكم الله، هذا الاقتراحَ، وضُمّوه إلى عقولكم، ثم إلى صدوركم، ثم إلى جمعة مليونية تنهي أحلام مُرشحي الغوغائية والأمية والوصولية إلى السلطة التشريعية.
وإلى المشهد الثالث من زيارتي ...
وسلام الله على مصر.
No comments:
Post a Comment