Sunday, December 17, 2017

ألعابُ الجُوع


بسمة عبدالعزيز

أبنية فاخرة ، قلاع منيعة،  طعام شهي؛ حياة مرفهة موسرة، لا ينقصها شيء. هنا يعيش السادة. هنا يقيمون، ومن هنا يحكمون، ويديرون شؤون البلاد، وينظمون حياة من يعيشون على الهوامش والأطراف. الناس على الأطراف لا يملكون إلا فيضًا مِن البؤس، والحرمان؛ وكي لا يفكروا في التمرد أو الثورة كما فعلوا من قبل، فإن السادة يعاقبونهم ويستبقونهم مشغولين بالألعاب. 

ألعاب سنوية منتظمة، تشبه الأوليبمياد؛ يشارك فيها فرد أو اثنان عن كل مقاطعة أو منطقة أو مدينة، لكن المبادئ والقواعد المُتبعة فيها، تختلف عن أية مبادئ أو قواعد رياضية مُتعارَف عليها. هي تنتمي أكثر ما تنتمي إلى ألعاب القرون الوسطى، والأزمنة الغابرة التي لا ترجى لها عودة، تلك التي كان العبيد يُقدَّمون فيها؛ ليصارعوا حيوانات مفترسة، في ساحة تكتظ بالجماهير الشغوفة بعملية الافتراس. المغلوب ميت لا محالة؛ لا فرصة أخرى ، ولا يمكن تعويض الهزيمة.

كهذا هي ألعاب الجوع؛ على المتنافسين فيها أن يقتلوا بعضهم بعضًا، إلى أن يصبح هناك فائز وحيد، وكهذا هو الفيلم الأمريكي الذي يكاد يطابق الواقع المفجع.

ثمّة فجوةٌ شاسعة؛ ما بين وجوه السادة المُتورَّدة، وصفاء بشراتهم، ونعومة جلودهم، وملابسهم الأنيقة، وبين الشقاء الطافح في وجوه مَن سواهم؛ حظوا بما يستر أجسامهم أو لم يحظوا. ثمّة فارقٌ مرعب؛ ما بين أكواخ وبيوت المتبارين في الألعاب؛ بقذارتها وفقرها وضيقها، وبين البنايات المتلألئة التي يقطنها الحاكمين. هنا بشر وهناك أيضًا بشر، والهوة التي تفصل أولئك عن هؤلاء، محفورة بعناية كي يصعب عبورها.

يُعاد فيلم ألعاب الجوع كثيرًا على قنوات الأفلام الأجنبية المتنوعة؛ كأنه صار من المقررات. رأيت أجزاءه مرة، ثم ثانية، ثم ثالثة، ورابعة، وكأن في إعادته رسالة وعلامة. الفيلم من إنتاج عام ألفين واثني عشر، كاتبته هي سوزان كولنز، ومخرجه هو جاري روس.

مشاهد الفيلم القاسية يمكن رؤيتها، وإسقاطها على أرض الواقع بجدارة. كلما صادفته، رحت أتابعه، لأرى الحاضر بكامل بشاعته وانحطاطه. المرة الأخيرة التي عُرِض الفيلم فيها، استدعى إلى مُخيلتي بعض اللقطات الراهنة، ومنها ما تعلَّق بتلك العاصمة الجديدة، ومشاهد الاحتفالات الباذخة التي أقيمت فيها، والصور التي نقلتها إلينا وسائل الإعلام منها. المقاربة جائزة، والمقارنة حاضرة.

عاصمة جديدة، كبيرة، جميلة، فيها ما لا عين رأت، ولا أذن سمعت. عاصمة جديدة عظيمة، جالبة للحسد، تحتضن القصور الفخمة والمروج الواسعة، حدائقها مديدة، وبحيراتها خضراء وزرقاء؛ لا يملُّ الناس النظر إليها. عاصمة مُفعَمة بالقوة والجبروت، البناء المُحصَّن والأسوار العالية؛ أما الجياع ففي الخارج، يقتتلون.

عاصمة يحكم منها السادة، بينما الشعب يعوي على حدودها، لكن العواء لا يصل آذان الحاكمين؛ فالجدران المصمتة، والجلود السميكة، تحجب عنهم المُنكَر من الأصوات.

قالت مُحدثتي، التي أصابها الارتباك، وغمر أفكارها التشوش، على مدار السنوات الثلاث الأخيرة؛ إن العاصمة فخر؛ تدعو إلى التباهي وتتيح لنا -نحن المواطنين- الزهو والتيه بالإنجاز والإعجاز. قالت، لكن قولها كان أشبه بالتساؤل، الذي يستجدي الموافقة من السامعين، ويبحث في قلق وتوجس عن شيء من الدعم والتأييد. ردّ أغلب المشاركين في النقاش، وأنا معهم، بأن الزهو في حال مثل حالنا، لا يكون إلا بتحسين أوضاع المعيشة التي صارت موجعة. الزهو يكون؛ حين يجد الناس ما يغنيهم عن النبش في أكوام القمامة، بحثًا عن الطعام أو عن أي شيء له قيمة. الزهو يصبح حقًا للجميع؛ حين يتعلم الأطفال على أحسن ما يُشتهى، دون أن يُحشَروا في فصول كما الجحور، ودون أن يتجرعوا المذلة في أعمارهم الغضّة. المعجزة التي يمكن التباهي بها، هي أن يحصل المواطنون، الذين يحيون تحت خطوط الفقر كلها، على علاج ودواء دون أن يتسولوا، ويتوسلوا، ويتذوقوا مُر الإهانة.

التفوق المنشود لا يكون بتشييد الأبراج والقلاع والحصون، لا يكون بالمدن المُحاطة بالموانع والسدود، فأكم من أبنية تشيد هنا وهناك، وتُجمَع لها الأموال وتُسخَّر الآلات والمعدات والأدوات الحديثة كافة، فلا فضل في تجسيدها ولا مُعجزة في بنائها، بل أن وجودها عار ونقيصة، في  ظلِّ عدم استيفاء الأولويات التي ترتبط باحتياجات الناس الأساسية.

في فيلم ألعاب الجوع مواجهات صريحة مباشرة بين المتبارين؛ أما السادة فآمنون، وفي الحقيقة التي نحياها مواجهات صريحة مباشرة بين المسحوقين؛ أما المسؤلون ففي وسع وسلام، والأمل أن يأتي المستقبل القريب بما يهدم الأسوار، ويسد بحطامها الفجوة بين الفريقين، الأمل أن يأتي عهد جديد بلا ألعاب. 

                                                                                    

No comments:

Post a Comment