لا يمكن أن يكون الذى يحدث فى مصر للفلسطينيين مجرد مصادفات، ولا يمكن أن يتم بحسن نية، وإنما هو فى أحسن فروضه من مخلفات مرحلة رفضها وثار عليها شعب مصر.
(1)
يوم الخميس الماضى 14/3 نشرت صحيفة «الشروق» على الصفحة الأولى خبرا خلاصته كما يلى: تم اعتقال خلية فلسطينية من سبعة أفراد قدموا من دمشق. وكانوا قد قضوا فى إيران بعض الوقت، ثم دخلوا إلى سوريا بدون تأشيرة. وقد اشتبه فيهم ضابط الجوازات، فاستدعى فرقة التأمين. وأثناء تفتيش حقائبهم اكتشف رجال الأمن وجود رسم «كروكى» لمنشآت مصرية سيادية. فتم نقلهم إلى جهاز الأمن الوطنى، حيث عثر بحوزة أحدهم على ملف ورقى به بعض صور لمؤسسات حيوية وعسكرية فى مصر، بجانب حيازته أوراقا مدونة بخط اليد عن كيفية تصنيع المتفجرات والتدريبات العسكرية، إضافة إلى مخططات إرهابية تستهدف تفجير بعض المنشآت فى مصر. وقد اعترفوا فى التحقيق معهم بأنهم كانوا يعتزمون القيام بعمليات تخريبية ردا على هدم الجيش للأنفاق «السرية» فى غزة، وقد تم إطلاق سراح أولئك الأشخاص «بدون إبداء الأسباب». فى نفس اليوم كانت القصة هى الخبر الرئيسى على الصفحة الأولى لجريدة «الوطن» تحت العنوان التالى: الرئاسة تضغط للإفراج عن 7 فلسطينيين بعد ضبطهم وبحوزتهم خرائط لمواقع سيادية. وجاء فى الخبر ما يلى: كشف مصادر سيادية رفيعة المستوى أن مؤسسة الرئاسة مارست ضغوطا شديدة على المخابرات الحربية لمنع تسرب أى معلومات بشأن القبض على 7 فلسطينيين فى مطار القاهرة تبين أن بحوزتهم صورا ورسومات لأماكن حيوية تخص القوات المسلحة. وأضافت تلك المصادر أن ضغوط الرئاسة استهدفت الإفراج عن المتهمين وترحيلهم إلى غزة عبر معبر رفح. وأشارت إلى أن السبعة دخلوا إلى مصر عبر الأنفاق أكثر من مرة وتلقوا تدريبات فى كتائب القسام قبل أن يتلقوا تدريبات أخرى على القتال فى إيران بواسطة المخابرات والحرس الثورى. وكشفت تلك المصادر عن أن المتهمين عثر بحوزتهم على صور لمنشآت سيادية من ضمنها مقار وزارتى الدفاع والداخلية ومبنى الإذاعة والتليفزيون والمخابرات العامة وبعض الوحدات العسكرية وهيئة التنظيم والإدارة الخاصة بالقوات المسلحة.
أهم إضافة لجريدة الوطن أنها نسبت الكلام إلى «مصادر سيادية» ولم توجه الاتهام بالتخريب إلى الفلسطينيين السبعة فحسب، وإنما وجهته أيضا إلى الرئيس محمد مرسى الذى وجه بتدخل الرئاسة وممارسة ضغوطها الشديدة للإفراج عنهم وإعادتهم إلى غزة.
(2)
فى يوم الخميس ذاته نشرت صحيفة «المصرى اليوم» الخبر على صفحة داخلية بصيغة أخرى، فذكرت أن سلطات مطار القاهرة قررت إطلاق سراح الفلسطينيين السبعة، الذين ألقى القبض عليهم بعدما عثر معهم على خرائط وصور لمنشآت، بعد التأكد من سلامة موقفهم عقب التحقيق معهم.
..وأوضح مصدر أمنى بالمطار أن الفلسطينيين لم يحصلوا على تأشيرة خروج من السلطات السورية، وهو ما دفع رجال الأمن إلى فحص أوراقهم بدقة.
واكتشفوا مع الأوراق صورا ومصحفا إيرانيا (!) وشكوا فى أن الصور تخص منشآت مصرية. وحين أبلغ جهاز الأمن الوطنى بالواقعة وتم فحص المتعلقات تبين أن الصور تخص بعض المنشآت فى غزة وإيران، وأنهم غير ضالعين فى أى أعمال تخريبية بمصر.
ما ذكرته «المصرى اليوم» ردده فى ذات الوقت بيان لمركز «أمد» الإعلامى الفلسطينى، الذى ذكر أن سلطات الأمن الوطنى بمطار القاهرة أفرجت عن الفلسطينيين السبعة ونفت مصادرها ما نشرته بعض المواقع الإخبارية عن ضبط هؤلاء الأشخاص وبحوزتهم خرائط وصور لبعض المنشآت الحيوية والسيادية بمصر، مؤكدا أنه لم يعثر معهم على أى مستندات يمكن أن تضر بالمصالح المصرية وإنما كل ما حملوه من أوراق وصور كان خاصا بهم. كما لم يثبت تورطهم فى أى أعمال إرهابية أو تخريبية داخل البلاد.
وقال المصدر الأمنى المصرى إنه تم احتجاز السبعة بعد قدومهم على الطائرة السورية من دمشق لعدم وجود أختام دخولهم وخروجهم من سوريا، مما أثار ارتياب سلطات الجوازات، فتم عرضهم على جهاز الأمن الوطنى، وبفحص المستندات التى بحوزتهم تبين وجود الأختام على بطاقة منفصلة بالإضافة أن جميع أوراقهم سليمة وليست مزورة. (للعلم الحكومة السورية ترفض الاعتراف بجوازات السلطة الوطنية الفلسطينية منذ رفعت لواء الممانعة).
وقال المصدر الأمنى أنهم سبق لهم دخول مصر بطريقة شرعية وليس عبر الأنفاق وتوجهوا إلى سوريا وإيران، مضيفا إنه بالتحقيق معهم وبتفتيش الحقائب لم يعثر بحوزتهم على وثائق أو صور أو خرائط خاصة بمصر.
ذكر المصدر أيضا أن تلك المجموعة قد تكون تابعة لإحدى الفصائل الفلسطينية الجهادية بقطاع غزة نافيا أن يكونوا تابعين لحماس كما بين التحقيق معهم.
(3)
بعد يومين من هذه الفرقعة التى لا تحتاج إلى تعليق. نشرت مجلة «الأهرام العربى» يوم السبت 16/3 ما اعتبرته انفرادا مثيرا، ادعت فيه أنها كشفت فيه عن أسماء ثلاثة فلسطينيين من قيادات حركة حماس وغزة، واعتبرتهم مسئولين عن مذبحة رفح الشهيرة التى قتل فيها 16 ضابطا وجنديا فى شهر رمضان من العام الماضى (2012) ــ وذكرت أن الثلاثة هم أيمن نوفل القيادى بكتائب القسام، الذراع العسكرية لحركة حماس ــ محمد إبراهيم أبوشمالة وشهرته أبوخليل، وهو من قياديى الصف الأول بالحركة ــ رائد العطار مهندس ومخطط ومنفذ عملية اختطاف الجندى الإسرائيلى جلعاد شاليط، (وصفته المجلة على غلافها بأنه رأس الأفعى الحمساوية (!).
فى التقرير نقطتان أخريان، أولاهما أن حركة حماس هى التى قامت بالعملية، انتقاما من الجيش المصرى بسبب قيامه بهدم الأنفاق الموصلة إلى غزة، والثانية أن رئيس تحرير المجلة ذكر أنه اتصل بمسئولى المخابرات العامة المصرية وجهاز الأمن القومى، وتأكد من صحة المعلومات المنشورة.
حين وقعت على هذا الكلام اتصلت هاتفيا بالدكتور موسى أبومرزوق نائب رئيس المكتب السياسى لحركة حماس فقال إنه كلام مكذوب بالكامل، وإنه على اتصال مستمر مع مسئولى الملف الفلسطينى فى المخابرات المصرية، ولم يسمع من أى منهم أية إشارة من هذا القبيل، وأضاف أن حماس كانت أول من أدان العملية واستهجنها، وأنها أبدت استعدادا للتعاون مع الجهات المصرية المعنية فى كل ما تطلبه منها خاصا بسير التحقيق.
من جانبى أجريت اتصالات بهذا الخصوص مع بعض المسئولين المعنيين بالموضوع، وقيل لى صراحة إنهم لا علاقة لهم ولا علم لهم بالكلام المنشور ولم يرجع إليهم أحد فى صدده.
وفى الوقت الذى جرى فيه الترويج لهذه القصة، أتيح لى الإطلاع على وثيقتين مزورتين على مشاركة حركة حماس فى الدفاع عن الرئيس مرسى وحركة الإخوان فى مصر. الأولى مكتوبة بسذاجة وركاكة وهى عبارة رسالة «سرى وعاجل جدا» موجهة من قائد كتائب القسام فى غزة تاريخها 12/1/2013. موجهة إلى الإخوة المجاهدين فى قطاع غزة. وموضوعها هو: «إعداد كشف بعدد 500 مجاهد من قبل الإخوة المعنيين» وفى النص توجيه من قائد الكتائب لقادة الألوية بالقطاع يقول فيه: نرجو منكم إعداد كشوفات بأسماء عدد الإخوة المجاهدين لديكم، مع الأخذ بعين الاعتبار عنصر السرية. وذلك لما تتطلبه المرحلة الراهنة من تحديات تجاه إخواننا فى مصر الشقيقة. وبناء عليه تقرر تكليفكم بتحضير أسماء عدد من المجاهدين، بحيث يلتزم جميعكم فقط بـ500 مجاهد من كل لواء فى قطاع غزة، وذلك للضرورة لمساندة الإخوة فى مصر الشقيقة فى ظل المحنة التى يعيشونها ومحاولات فلول العهد البائد للعودة إلى الحكم، ونتمنى منكم كما تعودنا عليكم أن يبقى هذا العمل فى سرية تامة للمصلحة العليا، وانتظار اجتماع عاجل لتسهيل سفر الأشخاص المرشحين من قبلكم، وآليات إبلاغهم بالتعاون دون لفت الأنظار. وبارك الله فيكم وجعله فى ميزان حسناتكم ــ أدامكم الله لخدمة المشروع الإسلامى واستمرار نهج الجهاد والمقاومة.
الوثيقة الثانية عبارة عن تقرير تحدث عن خلاصة اجتماع عقد بالقاهرة فى 11/1/2013 بين نائب مرشد الإخوان خيرت الشاطر وقائد كتائب القسام فى غزة مروان عيسى، واستهدف ترتيب استقدام عشرة آلاف عنصر من القسام للتحسب لأى طارئ فى مصر، مع حلول ذكرى 25 يناير. ذكر التقرير أنه فى يوم الخميس 24 يناير دخل إلى مصر سبعة من قادة حركة حماس من خلال معبر رفح، وفى الوقت نفسه دخل عبر الأنفاق 500 عنصر وكميات كبيرة من السلاح أغلبها معدة للقنص، وفى يوم الجمعة 25/1 قام مروان عيسى قائد القسام بتجهيز ثلاثة آلاف دخلوا عبر الأنفاق إلى مصر قبل صلاة فجر السبت 26/1 ــ وفى مساء اليوم ذاته ادخل إلى مصر سلاح «آر بى جيه» بسيارات وباصات تحمل أرقاما دبلوماسية ــ وفى نفس اليوم تم إدخال كميات كبيرة من السيارات والسلاح من ليبيا إلى الأراضى المصرية. وقد تم تزويد عناصر القسام بزى خاص قريب من زى الجيش المصرى، وتلك العناصر التى زودت بسيارات رباعية الدفع أغلبها ادخل من ليبيا والسودان تمركزت فى أغلب محافظات مصر، وبخاصة فى السويس والقاهرة والإسماعيلية. وقد أنشأت كتائب القسام غرفة عمليات مركزية فى رفح المصرية وفى سيناء من أجل إمداد العناصر المشاركة فى الأحداث بالذخيرة.
وتضمن التقرير قائمة طويلة بأسماء الفلسطينيين الذين قيل إنهم اشتركوا فى حملة «قنص المصريين».
فى التعليق على الوثيقتين قال الدكتور أبو مرزوق إنه لا هدف لها سوى الوقيعة بين مصر وحماس فى غزة. وأضافت أن الجهة التى أعدتهما وسربت فحواهما إلى مختلف المنابر الإعلامية تجاهلت أن الجيش المصرى يراقب كل ما يدخل ويخرج من الأنفاق، ويستحيل أن يقف متفرجا أو صامتا أمام الآلاف التى ادعت أنه تم تسريبها إلى مصر، ثم إنه لم يثبت حتى الآن أن فلسطينيا كان له دور فى الاضطرابات التى حدثت فى مصر، وكل ما قيل فى هذا الصدد لا يخرج عن كونه ادعاءات روج لها الإعلام ولم تثبت صحتها.
(4)
حين يطالع المرء هذه المعلومات لابد أن يستحضر حقيقة أن ثقافة المرحلتين الساداتية والمباركية تبنت موقف العداء للفلسطينيين عامة والخصومة لحركة حماس بوجه أخص. وفى ظل ذلك العداء اعتبر الفلسطينيون «أجانب» وتم إلغاء كل مظاهر الدعم الذى قدم إليهم فى المرحلة الناصرية فى العمل والإقامة والتعليم (كانوا يعاملون معاملة المصريين فى مراحل التعليم المختلفة). ورغم أن الفلسطينيين يشكلون أقل الفئات العربية المقيمة فى مصر (عددهم فى حدود 100 ألف فى حين أن السودانيين خمسة ملايين)، فإن حظهم هو الأسوأ فى المعاملة، فهم ممنوعون من التملك والتجارة (إلا للمتزوج من مصرية منذ 5 سنوات)، كما أن وثيقة السفر المصرية التى تمنح لهم لا تسمح لهم بدخول البلد دون تأشيرة. بل إن الفلسطينى المقيم حامل رخصة قيادة السيارة لا يسمح له بتجديد الرخصة إلا بعد المرور على الأمن، وبعد مضى شهر من تقديم الطلب. أما العنت والمهانة التى يعانى منها الفلسطينيون الراغبون فى الذهاب إلى غزة فحدث فيها ولا حرج.
فى عهد عبدالناصر كانت مصر «الشقيقة الكبرى» عونا وسندا للفلسطينيين كافة. وحين تصالح السادات مع إسرائيل انقلب عليهم وأصبح الفلسطينى متهما وغير مرغوب فيه. ولما صار مبارك «كنزا استراتيجيا» لإسرائيل استحكمت خصومته لفصائل المقاومة وفى مقدمتها حركتا حماس والجهاد. وخلال هذين العهدين تشكلت طبقة سميكة من البيروقراطيين والسياسيين والإعلاميين عبرت عن السياسات المتبعة. وهؤلاء لم يختفوا بعد الثورة. ولكنهم لا يزالون على مواقفهم ويمارسون ضغوطهم، وفى أجوائهم تلك نشط جهاز الأمن الوقائى فى السلطة الفلسطينية الذى لم يكف عن محاولة الإيقاع بين حماس وبين السلطة المصرية الراهنة تصفية لحسابات قديمة وخشية انحياز الإخوان لها، مما يؤدى إلى تغيير موقف القاهرة الذى كان دائم الدعم لها فى ظل العهد السابق، وقد قيل لى إن وثيقة تسفير رجال إلى مصر لدعم الإخوان تسربت أصلا من وثائق الأمن الوقائى فى رام الله.
•••
هذه الخلفية تسوغ لنا أن نقول بأن الذين يسعون إلى شيطنة الفلسطينيين وإيغار الصدور ضد حماس لا يعبرون عن مصر الحقيقية «الشقيقة الكبرى» ومن ثم فإنهم لا ينطقون باسمنا، ولكنهم جزء من «الفلول» الذين تآمروا على شعب مصر ولا يزالون عبئا عل ثورته.
No comments:
Post a Comment