من مناخ التحرر إلى واقع الحرية
محمد شكر
حطمت ثورة الشعب كل القيود التى فرضتها عهود الإستبداد على حرية التعبير والعمل السياسى ووجدنا أنفسنا لأول مرة أحرارا ننطلق فى فضاء لامتناهى من الطموحات والعمل الميدانى والتعبير السياسى والمطالب الإصلاحية. مصر تحررت بعد الثورة لكن هذا التحرر الذى نعيش مظاهره هو الخطوة الأولى فى سبيل الحرية.
التحرر هو إنتفاضة حطمنا بها القيود التى جعلتنا مُسيّرين فى حياتنا تبعا لمشيئة "الكبير" دون إعتبار لإرادتنا الذاتية. فهو إذن لا يزيد عن كونه مناخا لبناء واقع جديد. أما الحرية فهى هذا الواقع الذى يتحقق فيه الإستقلال القومى المدعوم بقوى الإنتاج والدفاع العسكرى عنها وتتأكد فيه ضمانات حقوق المواطنة. وسوف نبنى واقع الحرية هذا بإعادة نشر ثقافة تدعم أنماطا سلوكية إيجابية تؤكد على صيانة حقوق الغير وعلى التعايش السلمى فى ظل التعددية العقائدية والترحيب بتداول السلطة بل والترقى بمعايير الإنتخاب نفسها لتصبح أكثر إقترابا من التفضيل بين برامج إنتخابية بعيدا عن الإغراق فى "الضدية المذهبية" كما شهدنا.
واقع الحرية إذن يستلزم الإنطلاق نحوه بتوجهات فكرية ثورية، لكن يبدو أن الحركة الميدانية للثورة فى هذه المرحلة تسبق الحركة الفكرية التى تحدد معالم هذا الواقع المنشود. وهذا الإنطلاق هو إختيار، يعنى لن ينزل علينا من السماء ونحن نهتف فى الميادين دون أن نختاره من خلال فكر وسلوكيات جديدة. فقد تحررت شعوبا كثيرة من قبضة الإستعمار لكن هذا لم يغن عنها شيئا لأنها لم تختار الحرية كهدف وسلوك ومنهج حياة - يعنى لم تترجم الحرية كقيمة على أرض الواقع بعد التحرر، فعاد الإستعمار ليعتدى عليها تحت أقنعة مختلفة وهى تظن أنها قد تحررت منه. فبأى إختيار وبأى منطلق فكرى يكون إنطلاقنا نحو الحرية بعد التحرر الذى أنجزناه بفعل الثورة؟
قبل أن ندخل فى الموضوع لابد من التذكرة بأن من أكبر المشاكل التى واجهت ولازالت تواجه ثورة مصر أنه لم يكن لديها نهجا فكريا محددا لأنها كانت ثورة عفوية إنطلقت بإرادة شعبية جمعت كل أطياف الشعب مع التباين الشديد بين أفكار وتوجهات فصائله. وسيكون التنسيق بين هذه الأفكار لتحديد معالم فكر الثورة هو أكبر التحديات التى ستواجهنا فى السنوات العديدة القادمة لأن الأمر يحتاج إلى توافق ثم إلى تجارب، والتجربة فى النهاية هى مقياس النجاح على المستوى العملى.
أما ما سنتناوله فى بقية هذا المقال فهو جزئية واحدة فى سياق الحديث عن واقع الحرية المنشود بعد التحرر، وهى تحقيق الإستقلال الوطنى. وهناك جزئيات أخرى يمكن أن نتناولها فيما بعد تتعلق بنهضة علمية وتكنولوجية أوبثقافة إجتماعية تُعلى من شأن قيم حضارية وغيرذلك. إستقلال القرار الوطنى هو ركيزة للحرية. فما يجدى تحررنا من الحكم الذى وضع مصر فى قفص التبعية للغرب إذا لم نتخلص من سجن هذا القفص بعد التحرر؟ ما يجدى تحررنا إذا ظللنا نستجدى من الغرب - ذلك المستعمر القديم الجديد - المال والعلم والخبرة بل والإدارة نفسها؟ ألا يعنى ذلك أن هذا المستعمر الذى كان سيد الأمس سيظل هو نفسه سيد اليوم؟
التخلص من هذه التبعية لاتعنى مواجهة الغرب بالعداء أو التكفير أو ما شابه ذلك لكنها تستلزم تنمية شعور قومى بالثقة فى إمكانياتنا البشرية ومواردنا الطبيعية لتحقيق نهضة قد تكون بالشراكة مع الغرب لكن ليس بشروط الغرب. وهذا ما أشرت إليه بالنهج الفكرى المطلوب لتحديد مسار الثورة، والذى لا يزال غائبا أو قل متواريا خلف الصراعات السياسية والمطالب الجماهيرية بالتطهير والقصاص للشهداء وما إلى ذلك.
إستقلال القرار المصرى بعيدا عن النفوذ الأجنبى يستلزم التركيز فى هذه المرحلة على إستثمار الطاقات البشرية المعطلة بدلا من التركيز المستمر على البحث عن مصادر إستثمار لتمويل مشروعات التنمية. لقد تم برمجة عقولنا طوال العقود السابقة على ضرورة البدء بالبحث عن مستثمر مالى لإنجاز المشروعات القومية لدرجة أننا أصبحنا نرى فى المستثمرين الوسيلة لتحقيق النهضة فى حين أننا نملك الوسيلة الحقيقية الكفيلة بتحقيق النهضة والإستقلال معا: أعنى الثروة البشرية. لابد من إعادة برمجة عقولنا فى هذه الجزئية وهى مهمة فكر الثورة، لكنها فى الواقع مهمة عسيرة لأن فكر الإصلاح أصعب فى نشره بكثير من فكر الإفساد.
لابد أن تتضمن تفاصيل هذا الفكر تكاليف تأهيل هذه الجموع البشرية التى تملأ شوارع مصر - تسترزق من أعمال خدمية غير منتجة - لتوظيفها فى أعمال منتجة، ثم ترجمة رأس المال البشرى المؤهل هذا إلى أرقام مالية وبعد ذلك ما يمكن أن يكون متوقعا منه كعائد فى حالة توفر فرص العمل أو كفاقد فى حالة عدم توفرها.
الإرتقاء بالثروة البشرية - يعنى بمؤهلات القوى العاملة - له أهمية خاصة فى عالم التقدم التكنولوجى الحالى الذى يتطلب مؤهلات للوظائف ترتكز على المعرفة والمهارات الذهنية. وهذا الإرتقاء هو من صميم مهمة الدولة التى يجب أن تضطلع بها فى إطار من الفكر الثورى. المعونات الأجنبية لم ولن تهدف للإرتقاء بهذه الثروة البشرية لأنها ببساطة ترفض أن توظف القدرات البشرية فى صناعات ونظم متقدمة تنافس بها صناعات الدول المانحة. وهنا يجب الإدلاء بشئ من القول فى مسألة المعونات الأجنبية التى تعتبر من أكبر العوائق فى سبيل حرية مصر وإستقلالها.
من المعلوم أن المعونة الأميركية السنوية لمصر فى الأعوام الأربعة الأخيرة تراوحت حول مبلغ المليار ونصف المليار دولار بعد أن كانت تزيد على المليارين فى التسعينيات. هذا المبلغ موزع بين معونة عسكرية تزيد قليلا على المليار وربع دولار ومعونة إقتصادية تقترب من الربع مليار دولار. وهنا يكمن السؤال المرتبط مباشرة بقضيتى الحرية والإستقلال. ماهى أهداف المعونة العسكرية الأميركية وما هى مصارفها؟ ما هو تأثيرها المباشر على سيادة القرار السياسى والعسكرى المصرى؟ ما الذى جنته العسكرية المصرية خلال الثلاثين عاما المنصرمة من هذه المعونة السخية؟
إن مناخ التحرر الذى تحياه مصر بعد الثورة والتطلع إلى ترسيخ واقع الحرية (بمعنى التخلص من التبعية لأميركا) يستلزم طرح هذا السؤال مع الإقرار بإحترام سرية بعض المعلومات لأغراض الأمن القومى. أهداف المعونة الإقتصادية - فى المقابل - معلنة وتشمل النمو الإقتصادى فى مجالات محددة ودعم البنية التحتية وتطوير التعليم والصحة ونشر الديموقراطية (وهى أقرب للنكتة منها للجد) ولم يتحقق منها شئ على أى حال. بل إن المفارقة العجيبة أن هذه المعونة التى كانت تهدف للتنمية والإستقرار أدت إلى تأزم الأوضاع وتصعيد المعاناة إلى أن إنفجرت الثورة.
الفكر الثورى الذى نتطلع إليه فى سياق إنجاز واقع الحرية المنشود بعد أن تحررنا من أغلال الإستبداد لابد أن يطرح بديلا لهذه المعونة ولكل المعونات الأجنبية (المعونة الأميركية تمثل أكثر قليلا من مجموع المعونات الأجنبية التى تتلقاها مصر سنويا). قد يكون هذا البديل قاسيا على جموع كثيرة من الشعب لأن جَناحَيه هما ببساطة الحد من الإستهلاك وزيادة الإدخار، وقد كانتا دعامتا نمط الحياة فى مصر فى عهد عبد الناصر، وقد يكون البديل المطروح غير ذلك. لكن المعادلة فى النهاية ستكون بسيطة لأنها توازن بين طرفين: طرف يتضمن نمط الحياة الإستهلاكى والآخر يتضمن الإستقلال الوطنى بما ينطوى عليه من نبذ التبعية وتحصين الحرية.
لقد رفض جمال عبد الناصر فى الستينيات المعونة الأميركية التى كان مقدارها خمسين مليون جنيه وكان الدخل القومى لمصر وقتها ألف ومائة مليون جنيه سنويا (هذا الدخل يُقدّر اليوم ببضعة بلايين من الجنيهات)، ووجه عبد الناصر قولته الشهيرة للأميركان أمام جموع الناس "إذا إستلزم الأمر أن نوفر الخمسين مليون جنيه (المعونة) حنوفّرها عالجزمة ولا حيهمّنا". وهللت الجماهير مرحبة بإجراءات التقشف فى سبيل الإستقلال. كان هذا زمن مختلف وكانت روح المصريين تكتنفها العزة والإباء قبل أن تنفتح على مباهج الحياة فى عهد الرئيس "المؤمن"، لكن المقصود بهذا الحديث هو الإشارة للفكر الثورى الذى غذى تلك الروح الوثابة إلى الإستقلال والتى نأمل أن تتبلور فى المرحلة القادمة لثورة مصر.
لقد فجرت الثورة وعيا هائلا بمبادئ الحرية وحقوق الإنسان وكشفت عن أشواق دفينة لهما لدى قطاعات كبيرة من الشعب وأصبحت هذه المعانى الإنسانية بارزة فى منظومة القيم المصرية. فليس الذى ينقصنا الآن هو الوعى بالحرية أو المعرفة بالحقوق بل الفكر الذى يدفع لخلق واقع الحرية الذى سيتم فيه تفعيلها فى مجالات الإستقلال الوطنى والتقدم العلمى وصيانة الحقوق المكتسبة بفعل الثورة.
ثورة مصر تحتاج لطرح فكرى ثورى يؤدى إلى واقع الحرية المنشود. وقد ظهرت مثل هذه الأطروحات فى كتابات وأحاديث كثيرة قبل الثورة، بل وكانت بالفعل من إرهاصات الثورة،
لكن لايبدو أن الفصيل الإخوانى الحاكم يرحب بتداول أى فكر لم يصدر عنه ولايبدو أنه يرحب بالفكر الذى يروج للحرية بالذات. ثورة مصر تحتاج لصياغة فكر ثورى على غرار ما ورد فى كتاب فلسفة الثورة لعبد الناصر. بالطبع كان من السهل على عبد الناصر "صاحب الثورة" أن يُضمّن رؤيته فى كتاب لكن من الصعب على ثورة ليس لها صاحب أن يصدر بإسمها كتاب موازى يستوعب كل الأسباب التى أدت لإنفجارها ويقترح منطلقات فكرية "توافقية" لدعم مسيرتها.
لابد أن يحدث فى مصر الآن تكامل بين العمل الميدانى والسياسى من ناحية والعمل الفكرى من ناحية أخرى، وفى غياب هذا التكامل ستظل الثورة بلا فكر وستظل إدارة البلاد تجرى على غرار إدارة الدكان ولن تنفع إدارة الإخوان المسلمين فى خلق واقع الحرية فليس لديهم الفكر الذى يخلق هذا الواقع ولا يتوقع من أى فصيل قادم إلى الحكم بثورة على الإخوان أن يخلق أيضا هذا الواقع وسيكون هذا الفصيل غالبا "إخوانا" لكن بلون آخر، الإخوان الناصريين أو الإخوان الليبراليين أو الإخوان الإشتراكيين أو السلفيين أو العلمانيين. لن ينفع مصر بعد الآن إلا الإخوان المصريينلكن بعد أن يتبلور لديهم فكر التغيير.
محمد شكر
مارس 2013
No comments:
Post a Comment