Monday, June 27, 2011

إشارات فى مسيرة لم تنطلق

بقلم جميل مطر 

لسنا حالة مختلفة تماما عن حالات الانتقال إلى الديمقراطية التى تمر بها دول أخرى أو مرت

 بها واستقرت. نخطئ فى التقدير،

وبالتالى نخطئ فى تحديد الأهداف والسبل المؤدية إليها، إذا استمرت القيادات السياسية الناشئة وكذلك المخضرمة فى إصرارها على القول إننا تجربة خاصة أنه لا وجه، أو حاجة، للمقارنة بينها وبين تجارب أخرى سابقة أو معاصرة.

كنت أتحدث مع الوزير نبيل العربى ساعات قبل سفره لبروكسل ليعرض رأيه على الأوروبيين فى أسلوب معالجة قضية فلسطين أمام الأمم المتحدة، عرضت معه تطورات الجدل الدائر حاليا فى مصر ونقلت إليه قلقى نتيجة صعوبات فى التحاور وتصلب بعض شرايين المتحاورين. كشفت أيضا عن شعور بأن شيئا ما يكاد يتفلت من بين أصابعنا. أرى رداء الثورة يرتديه كثيرون لا يستحقونه، وأرى بعض عمر الشباب يسرق منهم وبعض حكمة التجارب يستهين به أهل الحكم. أرى كثيرين يتحدثون وهم فى مكانهم واقفين لا يتحركون، وقليلين هم الذين يسمعون ولا يشككون. أرى وقتا ثمينا يهدر وثورة عظيمة فى المهد احتشد غرب وعرب وأهل من بيننا لتعليقها تمهيدا لوقفها..

استمع نبيل وعندما انتهيت، قال إن لديه الكثير مما يجب أن أعرفه بعد أن اعترفت أمامه بأن لدى الكثير مما كان عصيا على فهمى. ولما كان الوقت ظهيرة الجمعة والظرف حديقة فندق ماريوت يضيقان بكثرة وحساسية ما يجب أن نتبادله قررنا أن نكتفى بطرح بعض حصاد الأيام الأخيرة. بدأ طرحه بأن نقل لى شهادات وزراء من دول فى أوروبا الشرقية جاءوا إلى مصر ليطلعوا وينصحوا ويحذروا. هؤلاء الوزراء أجمعوا، رغم أن كلا منهم تحدث مع الوزير العربى على حدة، عن أن عملية الانتقال إلى الديمقراطية التى دشنت فى أوروبا الشرقية فى أعقاب الثورة على الاستبداد الشيوعى، ما تزال بعد عشرين عاما تحبوا وإن بسرعات متفاوتة.

أشار الوزراء إلى أنه مرت فترة خلال العشرين عاما الماضية عادت فيها «فلول» الحزب الشيوعى الى الحكم بفضل انتخابات شفافة وحرة، ولكن لم تجرؤ هذه الفلول على استخدام أساليب قديمة فى الحكم ولا حتى ممارسة العقيدة سرا أو علنا. إن القلق الناتج عن الخوف من احتمال عودة من استبد وظلم وعذب أمر طبيعى، والاستعداد لمنع عودتهم واجب على الثوار وحق لهم، ولكن المبالغة فى قوتهم كالمبالغة فى تفكك الثورة والثوار كان يمكن أن تهدد الاستمرار فى التجربة الانتقالية بأسرها.

أضاف القاضى الدولى الذى يستعد للانتقال هو الاخر من منصب وزير الخارجية إلى منصب الأمين العام للجامعة العربية إلى شهادات وزراء أوروبا الشرقية أنه بينما اختلف وزير عن آخر فى تقدير أهمية عنصر على آخر من عناصر المرحلة الانتقالية، أجمعوا على أن إصلاح الاقتصاد يجب أن تكون له الأولوية المطلقة فى برامج الانتقال إلى الديمقراطية. هنا يتفقون تماما مع المسئولين من أمريكا اللاتينية وآسيا الذين زاروا القاهرة مؤخرا.

هم أيضا أجمعوا على أن الديمقراطية يجب أن تعنى للشعب الذى لم يألفها أو يمارسها الرخاء والحياة الأفضل، وإلا خفت حماسته لها واستعداده للتضحية من أجلها. أجمعوا أيضا، هؤلاء وأولئك، على أن البيئة الإقليمية تلعب دورا مهما فى ترطيب أو تعقيد مسيرة الانتقال نحو الديمقراطية. ففى أوروبا الشرقية مثلا، ما كان يمكن أن يتحقق النجاح لثورات الزهور باليسر الذى تحققت به لو لم تكن أوروبا الغربية جاهزة لدعمها منذ اليوم الأول معنويا وماديا، ولو لم تكن الظروف الثورية فى أنحاء أوروبا الشرقية، وفى روسيا تحديدا، ناضجة ومتوفرة..

●●●


عدت إلى أوراقى أقرأ ما سجلته من كلمات وإجابات مسئولين من أمريكا اللاتينية وأفريقيا وآسيا عن تجارب بلادهم خلال عملية الانتقال من الاستبداد إلى الديمقراطية. هؤلاء دعتهم وكالة التنمية التابعة للأمم المتحدة ليطلعوا كبار المسئولين وقادة التغيير من شباب وشيوخ على المشكلات التى واجهت بلادهم خلال عملية الانتقال وليوفروا عليهم تكرار الأخطاء التى وقعت فيها التجارب الأخرى. وجدت سطورا فى أوراقى كتبتها خلال هذا الاجتماع أعبر بها عن خيبة أملى فى مسئولين يعقد الاجتماع من أجلهم ولا يحضر منهم إلا أقل القليل وأكثر هؤلاء لم يحضر سوى لفترة وجيزة فى جلسة أو أخرى.

كان مفيدا لو حضروا ليسمعوا ويعوا ويناقشوا ويقارنوا. كان مفيدا لو حضروا ليعرفوا أن معظم المتحدثين ركزوا على أهمية الانتباه إلى تطور الأحوال فى دول الجوار، وأن الخلاصة التى توصل إليها قادة التغيير هناك وهى التى تقضى بضرورة توخى الحذر الشديد إزاء وجود دولة من دول الجوار معادية للثورة، باعتبار أن هذا الوجود سبب كاف لتعقيد مسيرة المرحلة الانتقالية وخلق المشاكل أمام قياداتها. وفى هذه الحالة ينصح بعض هؤلاء الذين قادوا المرحلة الانتقالية فى دول أمريكا اللاتينية بألا تخجل الثورة من الترويج لمبادئها وأهدافها فى كل أنحاء بيئتها الإقليمية، فهى إن لم تكسب دعم حكومات دول الجوار فستكسب حتما تعاطفا إن لم يكن دعم شعوب هذه الدول وأغلبها مظلوم ومقهور.

●●●


كان الاجماع الملفت للنظر، على الأقل فى الرسائل التى حاول المسئولون السابقون فى أمريكا اللاتينية وآسيا نقلها إلى المسئولين المصريين عن الحالة الانتقالية فى مصر هو النصح الصريح والقوى بالاهتمام إلى أقصى حد بقضية العلاقة بين العسكريين والمدنيين خلال المرحلة الانتقالية. ذكر أكثرهم أن ترك هذه القضية بدون حل يعنى ببساطة الحكم على الثورة بالفشل وبأنها لم تكن أكثر من مجرد أحداث عنف تسببت فى تغيير طفيف فى مناصب معينة.

سمعت ما قالته باتشيليت رئيسة جمهورية شيلى السابقة وحبيبى رئيس جمهورية اندونيسيا السابق وجينارو ارياجادا أحد قادة الحركة الشعبية التى اطاحت بنظام الجنرال بينوشيه فى شيلى وسيرجيو بيتار وزير المالية فى حكومة الرئيس آييندى التى أطاح بها العسكريون عشية الانقلاب العسكرى فى شيلى، كلهم وغيرهم أكدوا ضرورة أن يتوصل المدنيون من قادة الثوار ودعاتها وجماهيرها إلى صيغة غير خجولة أو مترددة للتعامل فى المستقبل مع القيادات العسكرية القائمة. يجب أن يكون واضحا أن الهدف النهائى هو تغيير العقيدة لدى المؤسسات العسكرية التى تعودت على التدخل فى الحياة السياسية، يجب أن يصل المدنيون والعسكريون إلى اتفاق يقضى بأن تتعهد المؤسسة العسكرية بأنها سوف تخضع للقيادة السياسية المنتخبة ديمقراطيا وفى ظل شفافية كاملة.

إلا أن الأكثرية العظمى من ثوار أمريكا اللاتينية الذين حققوا لدولها هذه القفزة الهائلة نحو الديمقراطية والتقدم الاقتصادى كانت واعية وحريصة، بمعنى أنها لم تندفع نحو مواقف متصلبة أو متطرفة تحت ذريعة فرض قطيعة تامة مع تاريخ بطول قرنين من حكم العسكر. ففى شيلى مثلا ترك المدنيون القائد المستبد أوجوستو بينوشيه فى منصبه العسكرى لسنوات بعد خلعه من رئاسة الدولة، وفى معظم الدول التى دخلت مراحل انتقالية تشكلت لجان للتحقيق فى حوادث التعذيب والفساد واقيمت محاكمات غلبت عليها الرغبة فى تحقيق المصالحة وليست الشهوة إلى الانتقام. وقررت كل اللوائح والقوانين التى صدرت بعد انسحاب المؤسسة العسكرية من الساحة المدنية ألا تتدخل القيادات السياسية والمدنية فى نظم الترقيات والتنقلات وتفاصيل ميزانية الدفاع، مع الاصرار على عرضها على لجان متخصصة فى البرلمان لمناقشتها بشفافية فى جلسات مغلقة.

أما بقية القضايا التى أجمع المسئولون السابقون فى أمريكا اللاتينية وآسيا وإفريقيا وأوروبا الشرقية على ضرورة أن تحظى بأولوية اهتمام القيادات المسئولة فى مصر عن إطلاق إشارة البدء فى عملية الانتقال إلى الديمقراطية، فتستحق مناقشة مستفيضة لا توفرها السطور المحدودة التى تقررها قواعد هذه الصفحة.

●●●


أرى مواقف تتدنى إلى مستوى النكوص عن وعود وإهمال تجارب غيرنا من الأمم وإصرار على متابعة مسيرة التخلف التى كادت تتوقف فى يناير الماضى، وأرى فى الوقت نفسه شعبا عاد يغلى بالرغبة فى التغيير مزودا بخبرات جديدة فى الضغط والعصيان والامساك بزمام حقه فى حياة حرة وكريمة.

No comments:

Post a Comment