Sunday, June 5, 2011

نهــايــة الطــاغـوت

عبدالحليم قنديل

القاضي الذي سيحاكم مبارك سوف يدخل التاريخ من أوسع أبوابه، وربما يحق فيه وصف أعظم القضاة الذي حاكم أفسد الرؤساء.

الحدث استثنائي بالمعني التاريخي كامل الأوصاف، فهذه أول مرة تجري فيها محاكمة وطنية لحاكم عربي، وهو ما يفسر فزع الحكام المفروضين علي رقاب العرب، وخشيتهم من مصير مبارك، فما يجري في مصر، يعود فيطبع بطابعه ما يجري في العواصم العربية كلها، وهذا هو قانون المنطقة إلي يوم يبعثون.

ومبارك لا يستحق أقل من عقوبة الإعدام، ولو كان بالوسع إعدامه ألف مرة، ربما لكان الجزاء أقل من جنس العمل، فمبارك ارتكب جرائم الخيانة العظمي كلها، ومبارك لم يكن مجرد حاكم منحرف، بل هو الانحراف نفسه، وهو الخيانة ذاتها، وهو المثال الساطع الفاقع علي خراب النفس الإنسانية، وخراب النفس الوطنية، وقد ولدت سيرته السياسية في مهد المخابرات الأمريكية، ومنذ أمروا السادات بتعيينه نائبا له، وفي أجواء لم يكن يصدق هو نفسه ما جري فيها، وإلي أن تحول مع عائلته إلي سرب جراد يأكل الأخضر واليابس في مصر، ويشفط السلطة والثروة لحسابه، ويضع حكمه في خدمة رعاته الأمريكيين والإسرائيليين، ويحول مصر العظيمة إلي مشيخة خليجية، يعيش رئيسها وعائلته علي هبات ورشاوي ملوك وأمراء الخليج، وينام معهم علي سرير خيانة الأمة، وتجريف مكانتها، وسرقة ثرواتها، وإدارة الحرب ضد أنبل أبنائها وبناتها، وارتكاب جرائم القتل العمد، والتعذيب المتعمد، والإخفاء القسري المنهجي، وتحويل البلد إلي عزبة، والنزول بها من مكانة المنافسة مع كوريا الجنوبية في معدلات التقدم والتنمية والاختراق التكنولوجي، النزول بها من حالق إلي الفالق، وإلي حضيض المنافسة مع «بوركينا فاسو» علي مؤشر الفساد الدولي.

والجرائم المنسوبة إلي مبارك في قرار الإحالة للجنايات هي غيض من فيض، فلا توجد جريمة في السجل الإنساني لم يرتكبها مبارك، بل إن وجوده في ذاته هو أعظم الجرائم، وقد كنا نقول دائما إنه لا يستحق أن يحكم، بل أن يحاكم، كنا نقولها، وهو في بيت السلطان، كنا نقولها وهو يمنح ويمنع، ويملك السيف والذهب، ولم ننتظر إلي أن يسقط، وإلي أن تصيبنا عدوي الشجاعة الرخيصة بعد سقوطه الدرامي، والتي يزايد بها الآن أناس كانوا من سدنته، ومن عديد خدمه في الصحافة والسياسة، وهؤلاء يستحقون المحاكمة معه، ويستحقون العزل السياسي الكامل، والعزل الإعلامي الكامل، فهم قوافل النفاق والتزييف العام، ويستحقون النهاية المريحة في أقرب مقلب زبالة.

هؤلاء يصح أن يتنحوا عن المسرح، وسواء نسبوا أنفسهم إلي المعارضة، أو حتي الإدعاء المتبجح بالانتساب للثورة نفسها، وكلهم يستحقون احتقار الناس في الدنيا، وعقاب الله في الآخرة، فقد كان صمتهم طلبا للنجاة من سيف السلطان وكان نفاقهم طمعا في ذهبه، وهم يستحقون النهاية ذاتها التي يذهب إليها سلطان العار، وأعرف بعضهم ممن تعلو أصواتهم الآن، ويتحدثون عن انتصاراتهم العظيمة، بل وعن انتسابهم لكلمة الله عز وجل، وكانوا يرتعدون من مجرد ذكر اسم مبارك بالنقد في بيان معارض، ثم يطلقون أحكامهم الآن علي عباد الله، ويتصرفون كأنهم الرسل والأنبياء، وكأن بيدهم مفاتيح الجنة ومغاليق النار«!»

ما علينا، المهم أن محاكمة مبارك انتصار للشعب المصري، وانتصار لثورته الفريدة، وانتصار لدم شهدائها وشهيداتها، وانتصار لعذاب الجرحي وأنات المصابين، والذين سكنت عيون الآلاف منهم طلقات الرصاص المطاطي، وهؤلاء ـ قبل غيرهم ـ يستحقون أن ينسب إليهم النصر، ثم إن يقظة ملايين الشعب المصري هي التي صنعت النصر، وبرغم وجود مخاطر لا يستهان بها، وبقاء قوي لم ينفد نفوذها، أخطرها في جهاز أمن مبارك الذي لايزال قائما وحاكما في وزارة الداخلية بالذات، وهو قوة انقلاب حقيقية علي الثورة بالعمد أو بالتراخي، وتنشر شعوراً بالفزع الأمني، وتتكامل في جهدها المدمر مع عناصر انقلاب في وزارة عصام شرف نفسه، كانوا من سدنة جمال مبارك ولجنة سياساته، وينشرون الفزع الاقتصادي، ويرددون أكاذيب عن افلاس وشيك بسبب الثورة، وتعاونهم أجهزة إعلام مملوكة لمليارديرات المال الحرام، والهدف ظاهر، وهو التكفير بالثورة، واعتبارها ذنبا وفوضي، وتبييض صفحة مبارك، وافتعال حنين إلي أيامه، لكن الشعور العام لم ينخدع، وصمم علي عقاب رأس الأفعي، والدعوة لمليونيات جديدة لإنقاذ الثورة، وهو ما وفر دعما لحسم موقف المجلس العسكري، وتشجيعه علي مواجهة ضغوط دولية وإقليمية شرسة، وجعل إرادة الجنرالات من إدارة جماهير الثورة المصرية العظمي.

وبرغم حرصنا علي نقد تباطؤ إجراءات چنرالات المجلس العسكري، وهو نقد في محله تماما، وينصرف إلي تصرفات المجلس العسكري سياسيا، وفي ظل وضع انتقالي آلت فيه مقادير التنفيذ والتشريع إلي الچنرالات، برغم حرصنا علي حق النقد، فلا يصح التردد في الاشادة بموقف سليم، ونعتقد أن المجلس العسكري استعاد نصيبا كان مهدداً من ثقة الناس، واستعاد صورته كحام للثورة، وحاكم باسم شرعيتها، وأثبت حسا سياسيا مرهفاً، حين لمس خطورة ما يجري من تآمر يصل إلي حد الانقلاب، وأصدر بيانه الشهير برفض العفو الذي ألح عليه السعوديون والإسرائيليون، ثم تقدم خطوة هائلة إلي محاكمة مبارك وصاحبه ونجليه، وبتهم شاملة تقترب مما كنا نريده، وإن كانت ـ لاتزال ـ أقل من المطلوب باعتبارات ثورة، وهو تحصين قضاة مبارك بقانون خاص للفساد السياسي، وتمكينهم من إجراء محاكمة شاملة عادلة لماضي الثلاثين سنة السوداء، فمحاكمة هذا الماضي ليست التفاتا عن المستقبل، بل المحاكمة حاسمة لصياغة المستقبل، وحتي لا يتكرر ما جري، فالذي يتناسي الماضي يحكم عليه بأن يعيشه ثانية في المستقبل.

ومن الانصاف أن ننسب الفضل لأصحابه، فقد انتصر الشعب المصري، وحققت ثورته انجازاً هائلاً بإيداع مبارك ونجليه في قفص الاتهام، وكان موقف المجلس العسكري مشرفا، وقريبا من حس الشعب، والمطلوب: مواصلة الشوط إلي آخره، وجعل المحاكمة علنية وشفافة، وتحت الرقابة الشعبية المباشرة، واستثمار قوة الدفع التي جري تحصيلها، وزيادة منسوب الثقة العامة، وتألق وحدة الجيش والشعب مجدداً تحت علم الثورة، استثمار ما يجري كله في إعدام نظام مبارك قبل إعدامه شخصيا، بالإسراع في حل المجالس المحلية المزورة، وبتوجيه ضربة تصفية بالجملة لچنرالات جماعة مبارك في جهاز الأمن الداخلي، وإعادة بناء وزارة الداخلية من أول السطر، باختيار وزير داخلية آخر قادر علي المهمة، وإحالة جميع لواءات الداخلية إلي التقاعد المستعجل، ومحاكمة كل لواءات السفاح حبيب العادلي، وإنهاء خدمة الضباط المتقاعسين عن جميع الرتب، والتوقف عن سياسة المسكنات والمنشطات الأمنية، والتقدم فوراً إلي بناء جهاز كفء يضمن الأمن التام للمصريين، ويضمن التصفية التامة لظاهرة البلطجة، والتقدم إلي اقتصاد منتج وعادل، وإلي سيناريو إقامة نظام سياسي جديد، يبدأ بصياغة وإقرار الدستور الجديد، ثم إجراء انتخابات برلمان ورئاسة لاحقة.

وباختصار، فإن التقدم إلي محاكمة مبارك نصر عظيم للشعب المصري وثورته وجيشه، وبقدر ما هو هزيمة محققة لإسرائيل وأمريكا وأتباعهما من ملوك وأمراء ورؤساء الخيبة العربية، لكن النصر النهائي معلق علي ما سيجري في المحاكمة ذاتها، وعلامة النصر الكامل هي حكم الإعدام للطاغوت ونظامه، ولكم في القصاص حياة يا أولي الألباب وصناع الثورات
تحية للجنرالات 
قرار المجلس العسكري بالفتح الكامل والدائم لمعبر رفح، وإعفاء الفلسطينيات من تأشيرة الدخول،وإعفاء الفلسطينيين تحت 18 سنة،وفوق 40 سنة، من التأشيرة ذاتها، هذا القرار مصري بامتياز، وضربة معلم حقيقية تستعيد ألق الشعور الوطني، وتوحد المصريين علي ملة الوطنية المصرية.

قرار المجلس العسكري ألقي بقفاز التحدي في وجه إسرائيل، وضرب عرض الحائط بتحذيرات الأمريكيين، وأكد أولوية المصالح المصرية، وأولوية فك حصار غزة، وما من تناقض، فمصرية مصر هي عروبة مصر، وإعادة إدراك مصر لدورها الفلسطيني يفزع تل أبيب، ويزدري نصائح واشنطن المسمومة.

تحية من القلب لجنرالات المجلس العسكري،

No comments:

Post a Comment