أحذر من خطرين يهددان مصر فى الوقت الراهن، أجواء الكراهية التى تشيع فى المجتمع والرغبة فى الهدم التى تضعضع بنيان الدولة. وتلك إشارات استجدت على الساحة السياسية بعد الثورة. وإذا صحت فهى بحاجة إلى دراسة وتحليل. فيما خص الأمر الأول فإننى أزعم أن رفض حكم مبارك وجماعته كان مسكونا بالغضب بأكثر من الكراهية. كما أن الرغبة فى تصحيح أخطائه تغلبت على الحماس لهدم ما فعله. حدث ذلك رغم أن الرجل أهان مصر والمصريين طوال سنوات حكمه التى استمرت ثلاثين عاما. وإذا جاز لنا أن نقارن تلك الخلفية بالموقف إزاء العام الذى أمضاه الرئيس محمد مرسى فى منصبه، فإننى أزعم أن المحرك الأساسى لاحتجاج الشارع المصرى وتمرده كان الفشل، وليس الإهانة. بمعنى أن الرئيس الحالى لم يستطع أن يحقق للناس ما توقعوه منه بعد انتخابه وما علقوه من آمال على الثورة. إلا أن المجتمع ظل على حيويته وجرأته وكبريائه. وأيا كانت الأسباب التى أدت إلى ذلك الفشل، سواء تمثلت فى قلة الخبرة وقصر المدة أو سوء الإدارة أو ثقل العبء والتركة، فالشاهد أن ذلك لا يقارن بخطايا النظام السابق المتمثلة فى الاستبداد والفساد والانبطاح السياسى فى مواجهة الولايات المتحدة وإسرائيل.
المقارنة تستدعى مفارقات أخرى، منها مثلا أن بعضنا أبدوا استعدادهم للتسامح بل والتعاون مع رموز النظام الذى أهان المصريين، فى حين أنهم اختاروا موقف الخصومة والقطيعة مع النظام الذى أخفق فى تحقيق تطلعاتهم، وقد رأينا نموذجا فجا لتلك المفارقة حين وجدنا الذين قتلوا الثائرين ضد مبارك يسيرون فى المظاهرات جنبا إلى جنب مع الثائرين ضد الرئيس مرسى. ومنها أيضا أن بعض الأصوات تحدثت فى أواخر عهد مبارك عن خروج آمن له ولأهله، فى حين أننا قرأنا هذا الأسبوع كلاما لأناس قالوا فيه إنه حتى فكرة الخروج الآمن للرئيس مرسى وجماعته مستبعدة ومرفوضة. منها كذلك أن مبارك وجماعته قدموا إلى المحاكم العادية، فى حين طالب البعض بتقديم مرسى وفريقه إلى محاكم خاصة بالثورة.
أثناء الثورة ضد مبارك أحرق مقر الحزب الحاكم فى القاهرة، حين أراد الثائرون أن يصبوا جام غضبهم على رموز النظام الذى أذل المصريين لحوالى ثلاثة عقود، ولم يمس مقر للحزب الوطنى فى أى مكان خارج العاصمة، ولكن بعد عام واحد من حكم الإخوان أحرق مقر الجماعة فى المقطم كما أحرق مقر حزب الوسط المتحالف معها، وتم إحراق ونهب 12 مقرا لحزب الحرية والعدالة فى أنحاء مصر حتى الآن.
ما عاد الأمر مقصورا على الإخوان ومقارهم، ولكن حملة الكراهية طالت بعض المتدينين خصوصا الملتحين أو المنتقبات، الذين تعرض نفر منهم للسخرية والإيذاء والاعتداء فى أماكن عدة، وقد عبرت فى مقام آخر عن خشيتى من أن تتحول حملة الكراهية إلى دعوة لاستباحة الناشطين الإسلاميين والإصرار على إبادتهم سياسيا ومعنويا، فى استنساخ نموذج «الخطاط» الذى طبقه الإمام يحيى فى اليمن، حين كان يطلق جنوده لاستباحة القبائل التى تتمرد عليه ونهب ممتلكاتها وأموالها.
لن أختلف مع من يقول إن الإخوان والمنسوبين إلى الحالة الإسلامية وقعوا فى أخطاء أثارت استياء الآخرين واستفزتهم، وسأتفق مع من يقول إن بعض المتحدثين منهم على شاشات التليفزيون استخدموا فى مخاطبة مخالفيهم أسلوبا فظا وجارحا فى بعض الأحيان. وهو ما أدينه واعتبره مخالفا مع أدب الإسلام فضلا عن خطاب ولغة الحوار بين المتحضرين. ويحزننى أن أقول إننى لا أتحدث فى اللحظة الراهنة عن العنف اللفظى لكننى أتحدث عن الكراهية التى تغذى العنف المادى. بكلام آخر فإننى صرت مستعدا لاحتمال التراشق والعراك بالكلمات إلى أبعد مدى ممكن، لكن ما أحذر منه هو اللجوء للعنف المؤدى إلى الإقصاء والإلغاء وصولا إلى الإبادة السياسية.
يطول بنا الحديث إذا حاولنا تحرى العوامل التى أدت إلى ذلك، سواء تمثلت فى أخطاء الإسلاميين أو تدبير وكيد خصومهم فى الداخل والخارج، وهو ما يمكن أن يفصل فيه علماء الاجتماع السياسى. وإلى أن يتسع المجال لتحليل ورصد تلك العوامل، فإن التنبيه يظل واجبا إلى أمرين أولهما خطورة الاستسلام لمشاعر الكراهية التى باتت تبث عبر وسائل الإعلام المختلفة كل يوم صباح مساء، من حيث إنها تفتح الأبواب لشرور لا حدود لها، وكلها تهدد السلم الأهلى. الأمر الثانى أن ذلك الإقصاء أو الإلغاء المؤدى إلى الإبادة السياسية مستحيل من الناحية العملية فضلا عن أنه ضار بالمصلحة الوطنية. ولن أتحدث عن الاعتبارات الأخلاقية. ذلك أن التفكير فى إلغاء أى عضو فى المجتمع مهما كان حجمه يصيبه بعاهة تشوه صورته إن لم تعق حركته، فما بالك بالطرف الإسلامى فى مصر، الذى لا ينكر حضوره، وقد استعصى على مجرد الحظر طيلة أكثر من ثمانين عاما، ويتصور البعض الآن أن أجواء الكراهية المخيمة تسوغ إبادته.
الأمر الاخر المتعلق بالتفكير فى هدم ما تم بناؤه فى مصر بعد الثورة يقتضى حديثا آخر أواصله يوم السبت بإذن الله.
No comments:
Post a Comment