السبت, 21 سبتمبر 2013
**"السيسى" يكرر ما فعله جنرالات
الجزائر الذين انقلبوا على إرادة صندوق الانتخابات
**المؤلف: نشرت الكتاب شعورا بالندم ومحاولة لهدم جدار الصمت الذى يحيط بـ"جرائم الجيش"
** الكتاب يكشف "غسيل المخ" الذى يُخضعون له جنودهم المُكرهين على القيام بأفعال بربرية
**الجنود اقتادوا عجوزا فى الستين وعلى مرأى من جميع العسكريين بال عليه قائد الكتيبة!
** سويدية: تلقيت أمرا بمرافقة ضباط استخبارات فى مهمة عسكرية وفوجئت بهؤلاء الضباط وقد أرسلوا لحاهم!
** قوات "الصاعقة" ترتدى ملابس مشابهة لملابس الإسلاميين ثم يذبحون الأهالى كالنعاج
**الكاتب يكشف أكذوبة الجيش المدافع عن الديمقراطية ضد الإسلاميين "السيئين" الذين يحاولون تدميرها!
فى كتابه المثير "الحرب القذرة- شهادة ضابط سابق فى القوات الجزائرية الخاصة 92-2001"، يقدم حبيب سويدية، الضابط السابق فى القوات الخاصة للجيش الجزائرى، أول شهادة من نوعها على الإطلاق يدلى بها ضابط، بوجهٍ مكشوف، عاش يوما بيوم تلك الحرب القذرة التى مزقت بلده منذ العام 1992 عشية الانقلاب العسكرى على الحكم الإسلامى فى الجزائر، عندما انقلب العسكر على صناديق الانتخابات تماما كما حدث فى مصر إبان 30 يونيه الماضى.
لم يتحمل سويدية تلك الجرائم، ومثله كثيرون من ضباط الجيش الشرفاء.
وحين أظهر اعتراضه سُجن 4 سنوات، وطُرد من الجيش،
ثم فعل المستحيل للهروب من الملاحقة الأمنية، ودفع رشوة للحصول على فيزا والهروب
إلى فرنسا، حيث عاش كلاجئ سياسى وألف كتابه.
أحدث الكتاب منذ صدوره ضجة فى فرنسا والجزائر، ووجّهت المحكمة الجزائرية اتهامات للملازم حبيب سويدية بأنه "سعى لإضعاف معنويات الجيش الوطنى، وبث البلبلة فى صفوف القوات المسلحة، من خلال توجيه اتهامات مختلقة ضده، وأصدرت محكمة جزائرية حكما غيابيا بمعاقبته 20 عاما.
يقول مقدم الكتاب "فرديناندو أمبوزيماتو" وهو قاضى تحقيق سابق فى محكمة النقض العليا فى إيطاليا إنه اهتم لسنين عدية بملفات الإرهاب ولكنه عندما قرأ كتاب "الحرب القذرة" اكتشف الفارق الشاسع بين الواقع الجزائرى والطريقة التى قدمته بها وسائل الإعلام، عمليات القتل اليومية بحق مواطنين عزل ونساء وأطفال، هى بالنسبة لغالبية الأوروبيين من عمل إرهابيين إسلاميين متعصبين ودمويين. أما هو فلم يشك قط بأن أجهزة مؤسسات الوقاية والقمع متورطة فى هذه المجازر.
وأشار فرديناندو إلى أن إظهار الحقيقة واجب أخلاقى وحقيقة تاريخية، مؤكدا أن شهادة حبيب سويدية عالية المصداقية لسببين رئيسيين. فى المقام الأول أن دقة الأحداث التى يرويها كبيرة إلى درجة يصعب معها التصديق بأنه اختلقها وفى المقام الثانى أن كل ما يرويه متناغم بصورة مطلقة مع ما نقله مراقبون مهتمون بالواقع الجزائرى (منظمة العفو الدولية – مراسلون بلا حدود).
والجديد الذى أتى به الكتاب هو أنه يبين للمرة من الداخل العمل المحدد الذى يقوم به الجهاز العسكرى ومنظمات الأمن الجزائرية التى بقيت حتى ذلك الوقت كتيمة إلى أقصى حد.
ولم يغفل الكتاب السياق التاريخى والاقتصادى بتمركز الثروات بين أيدى بضع جماعات، ونهاية فترة الديمقراطية بإلغاء الانتخابات وانقلاب يناير 1992 وإشراف الجيش على تركيبة الحكومات والقضاء والتضليل الإعلامى.. أليس كل هذا يحدث فى مصر الآن؟!
ويحكى "سويدية" ما رآه بدقة، التعذيب، الإعدامات العرفية، التلاعُبات، واغتيال المدنيين، كاشفا الغِطاء عن أحد أكثر "المحرمات" فى المأساة الجزائرية، التى حرصت السلطات على عدم الاقتراب منها ألا وهى الآلية الداخلية لعمل الجيش الجزائرى.
ويكشف الكاتب وقاحة الجنرالات فى موضع تقدير العواقب، حشو الأدمغة وغسيل المخ الذى يُخضعون له جنودهم، وأيضا يأس الجنود المُكرهين على القيام بأفعال بربرية، وفتك المخدرات وعمليات التطهير الداخلية. سيكون لهذه الشهادة الاستثنائية دوى كبير بعيدا عن التضليل الإعلامى الذى كثيرا ما منع الرأى الأوروبى من إدراك البعد المخيف للحرب الدائرة فيما وراء المتوسط.
إن استراتيجية الحرب القذرة dirty war تهدف إلى تحقيق الهدف العسكرى بغض النظر عن الخسائر والضحايا الأبرياء، حيث لا تأخذ هذه الأنواع من الحروب فى حسابها الخسائر الإنسانية أو الحضارية، ولكنها تركز على سحق العدو لإخضاعه باستخدام القوة التدميرية المفرطة التى تهدم المكان وبنية الإنسان بل وحتى الحيوان والحياة، بما فى ذلك دور العبادة والمقدسات، لإرسال رسالة للعدو مفادها "أننا جئنا لسحقكم وماضون فى ذلك إلى النهاية حتى لو تم استسلامكم"، كما كان التتار يفعلون فى حروبهم مع أعدائهم.
مؤلف الكتاب حبيب سويدية اضطر إلى مغادرة الجزائر وسعى للجوء إلى فرنسا بعدما سجن فى الجزائر. وفى فرنسا قرر أن يتكلم لتكون هذه هى المرة الأولى التى ينشر فيها عضو سابق فى الجيش الجزائرى كتابا يتضمن شهادة صريحة وكاملة عن معنى أن تكون فردا فى قواته الخاصة خلال ذروة مواجهة الإسلاميين فى الجزائر.
ويقول "سويدية" إن ما حمله على نشر الكتاب هو الشعور بالندم ومحاولة هدم جدار الصمت الذى يحيط بجرائم الجيش، مشيرا إلى "رغبته فى إراحة ضميره وتحرير نفسه" من المشاركة فى تلك الجرائم التى ترتكب بحق الإنسانية بفضحها وشجبها بأشد النعوت والأوصاف. ويقول "لقد شاهدت الكثير الكثير من انتهاك الكرامة الإنسانية إلى حد لا يمكننى البقاء معه صامتا".
يقول "سويدية" فى مقدمة الكتاب: "رأيت زملاء لى يحرقون طفلا فى الخامسة عشرة من عمره حيا، ورأيت عسكريين يذبحون مدنيين وينسبون هذه الجرائم إلى "الإرهابيين"، ورأيت عقداء يقتلون أشخاصا بدم بارد لمجرد الشبهة، ورأيت ضباطا يعذبون إسلاميين حتى الموت (وما سيارة ترحيلات سجن أبو زعبل فى مصر عنا ببعيد).. رأيت أشياء كثيرة جدا لا أستطيع السكوت، وهذه أسباب كافية لتحطيم حاجز الصمت".
ويتناول المؤلف الاختلال فى النظر إلى ما يجرى فى الجزائر، فبينما تتسلط الأضواء الإعلامية بقوة على "أعمال الإسلاميين" وتشجب وتدان، غالبا ما تهمش الأعمال المهولة التى ارتكبها الجيش أو يجرى تجاهلها، ويعيد ذلك فى جانب منه إلى الشعار الغربى الجديد "خطر الأصولية الإسلامية" الذى حل محل الشعار القديم "خطر الشيوعية".
ويتطوع سويدية صاحب الخلفية الاجتماعية المتواضعة والمنحدر من ولاية تبسة الجزائرية والذى انضم إلى صفوف الجيش عام 1989 ليس لأسباب مادية بل لقناعات وطنية، إذ كان لا يزال وهج جبهة التحرير الوطنى التى حققت الاستقلال للجزائر وأنهت الاستعمار الفرنسى شديدا فى المخيلة العامة، يتطوع ليكشف النقاب عن الجرائم التى ارتكبها الجنرالات فى حق هذا البلد العربى صاحب لقب "بلد المليون شهيد".
فعلى إثر الفوز الكبير للإسلاميين فى الانتخابات المحلية عام 1990 والذى عكس فى جانب منه ملل الناس من حكم الحزب الواحد طيلة الأعوام الثلاثين الماضية ومن الفساد والإهمال، بادر الجيش إلى خلع رئيس الوزراء مولود حمروش واعتقال الشيخين عباسى مدنى وعلى بن حاج. ويحاول المؤلف تصوير تصاعد الأحداث من وجهة نظره وكيف انزلقت الجزائر ببطء فى دوامة ثارات العين بالعين والاستفزازات المتبادلة بين الإسلاميين والجيش.
وبدأ القمع يأخذ مُنحنى علنيا واضحا ومُخيفا مع بداية عام 1992، فقد عُذب آلاف الشباب وأرسلوا إلى معتقلات جنوب الجزائر (8 آلاف شاب)، أُعدم المئات بالرصاص وأُحرق العشرات أحياء، فهم الناس فيما بعد أن المعتقلات هى أفضل آلة لتفريخ العنف المضاد، وكان الجيش يعرف ذلك وكان يتعمد ذلك، كان الهاربون من القتل والحرق والاعتقال سواء من المدنيين أو العسكريين يتجهون لحمل السلاح نكاية فى الجيش، لا عجب أن الجيش نفسه كان يسهل هروب هؤلاء وانضمامهم إلى الإرهابيين، كانت المؤسسة العسكرية تُعرف ضمنيا باسم "الشركة الوطنية لتأهيل الإرهابيين"، كانت تكاد تدفع بالشعب كله لحمل السلاح ضدها، كل ذلك كان مطلوبا حتى يعطى قادة الجيش صلاحيات لا محدودة فى الفتك بالشعب وتطويقه والمحافظة على السلطات والامتيازات اللامحدودة.
وكان هناك ممارسات غاية فى القذارة مع النساء كذلك وبنات الجامعات تحديدا، حيث يتم اجبارهن على مواقعة رجال الاستخبارات حتى يتم السيطرة عليهم واستخدامهن لاحقا فى جمع المعلومات من داخل الجامعة.
ويحكى الكاتب أنه فى مارس 1993 جاءته الأوامر بالاستعداد لإحدى المهام، المهمة باختصار هى حراسة شاحنة تقل ما يقرب من 20 فردا من قوات الصاعقة مدججين بالخناجر والقنابل اليدوية والرشاشات، لحاهم شبه نامية، ويرتدون زيا مدنيا، فبدوا مثل الإرهابيين المسلحين.
وكانت الأوامر تقتضى بأن يحرسوهم حتى نقطة معينة فى مفترق الطرق ويتوقفوا عند ذلك، بينما تُكمل الشاحنة طريقها منفردة إلى قرية تُسمى "دوار الزعترية"، إحدى القرى التى انتخبت "الجبهة الإسلامية للإنفاذ وقت الانتخابات، وقد حان وقت العقاب، ذُبح العديد من أهل القرية بلا رحمة، واغتُصبت نساؤهم ونُهبت أموالهم، وخرجت الصحف فى اليوم التالى بالخبر التالى: "هجوم إرهابى على قرية الزعترية ينجم عنه دزينة من القتلى"!
تكررت تلك العملية كثيرا فيما بعد، ترتدى قوات الصاعقة ملابس مشابهة لملابس الإسلاميين ويطرقون الأبواب فى بعض القرى المغضوب عليها، قائلين "افتحوا نحن الأخوة"! ومن ثم يذبحون جميع أفراد الأسرة كالنعاج، قوات الجيش كانت تقتل باسم الإسلاميين، هكذا كان الوضع فى تلك الحقبة المنكودة.
ويذكر الكاتب أنه فى إحدى ليالى مايو 1994م ازدادت موجة الاعتقالات فى بلدة "الأخضرية"، تلقى أمرا بمرافقة ضباط استخبارات فى مهمة عسكرية، وفوجئ بأولئك الضباط يرتدون جلابيب، وقد أرسلوا لحاهم كما لو أنهم إسلاميون، وقاموا بمهاجمة بعض البيوت واقتادوا خمسة من الرجال، وقد وثقت أيدهم إلى الخلف، وألبسوا أقنعة حتى لا يروا شيئا، إلى موقع القيادة.
وفى شهادة لصحيفة "الأوبزرفر" البريطانية حول مذبحة بن طلحة، أكد أحد الجنود الجزائريين الهارب من الجيش والمقيم حاليا فى لندن: "أن أعضاء كتيبته أبلغوا فى إحدى الأمسيات فى يوليو الماضى بأنهم ذاهبون فى مهمة خاصة، ونقلوا بالطائرات ثم بالسيارات إلى تل مطلة على القرية، ويقول الجندى كنا نحو 130 رجلا، وتم حقننا بشىء ما قيل لنا إنه سيقوينا، ويزيدنا شجاعة، وعلمنا لاحقا أنه كان أفيونا"!!، ويروى الجندى السابق: "أمر المجندون بالبقاء على التل، بينما ذهب 25 من الجنود المحترفين إلى القرية، وطلبوا من المجندين عدم التحرك إلا إذا تلقوا إشارة نارية، وبعد ساعتين عاد الجنود فى مظهر مختلف تماما.. كانوا يضعون لحى مصطنعة، وثيابهم قذرة وقد تعطروا بعطر المسك الذى يستخدمه الإسلاميون عادة، وباختصار كانوا متنكرين بأعضاء الجماعة الإسلامية!!".
ولكن يبقى أن المهم فى رواية سويدية هو ما يرويه عن مشاهداته ومشاركاته الشخصية فى "القوات الخاصة" التى كانت مهماتها "قذرة" كما يقول، فبعد انضمامه إلى هذه القوات شهد بأم عينيه صنوف الرعب والعذاب، فمثلا يقول إنه عاين حرق زملائه حدثا يبلغ 15 عاما وهو حى يرزق، كما وقف على مشهد ذبح الجنود المتخفين على هيئة إرهابيين لمدنيين فى قراهم، وإلقاء القبض على مشتبه به وإعدامه دون الاكتراث بمحاكمته.
وهذه الشهادات التى تثير الاشمئزاز، تجعل هذا الكتاب متفردا فى تسليط الضوء على مسائل لم يكشف عنها من قبل، ليس فقط فيما يتعلق بالمواجهة مع الإسلاميين بل وفيما يتعلق بكيفية تسيير الأمور داخل الجيش الجزائرى نفسه، وتشاؤم جنرالاته وغسل أدمغة جنوده، وكذا عمليات التطهير الداخلية الرامية إلى تخليصه من أى أصوات معارضة، والمخدرات، والتعذيب والإيذاء.
وحسب شهادة سويدية، فإن ما شهدته سنوات الحرب المدنية الأولى (92-1995) من جرائم، اقترفتها مجموعات محدودة العدد تتراوح بين خمسة آلاف إلى ستة آلاف من أفراد القوات الخاصة. وخاضت هذه القوات "الخاصة" حربين أولاهما ضد "الإرهابيين"، ولم يجد سويدية غضاضة فى المشاركة فيها. أما الأخرى والأهم فهى "الحرب القذرة" فى حق المدنيين من الجزائريين وهى التى شعر سويدية تجاهها بالمقت الشديد، وشجبها بقوة.
ويصور "سويدية" كيف أن نتيجة الانتخابات فى بلاده كانت مفاجئة لكل الأطراف، وبالأخص رابحيها الذين صوت لهم معظم شباب الجزائر واللذين يشكلون 70% من الشعب الجزائرى الفتى.
وابتهج الإسلاميون بالنصر، وبدأوا بتسميات بلدياتهم بالبلديات الإسلامية بدلا من بلديات "الثورة من الشعب إلى الشعب"، وشيئا فشيئا بدأت مشاهد الإسلام الراديكالى تظهر، وفُتحت معسكرات تعلم القتال والرياضة، وبدأت حرب شاملة ضد الفساد فى البلاد أقضت مضاجع الفاسدين.
وفى عام 1993 ، يقول سويدية، بدأت الشكوك تساوره حول "الجيش حسن السيرة الذى يدافع عن الديمقراطية ضد الإسلاميين السيئين الذين يحاولون تدميرها". لكنه بقى صامتا ولم يتحدث عن تلك الشكوك إلى الآن، الأمر الذى يطرح علامة استفهام لا تنى السلطات الرسمية فى الجزائر تركز عليها فى هجومها ضد سويدية وكتابه والناشر الذى رعاه. لكن من ناحية أخرى فإن سويدية نفسه كان قد اعتقل سنة 1995 ووجهت له تهمة "السرقة" رسميا، وهى التهمة التى نشرت وقائعها السلطة وجاءت بشهودها بعدما نشر سويدية كتابه هذا. أما بحسب رواية سويدية نفسه فإن سبب سجنه الحقيقى هو محاولة إسكاته وإبعاده أطول فترة من الزمن بعد مشاهدته لحالات تعذيب قام بها ضباط فى الجيش بحق معارضين إلى درجة قتلهم، وكذلك بسبب انتقاده للمحاكمات السريعة التى جرت عليه نظرة متشككة من قبل مرءوسيه جوهرها أنه ليس متحمسا بما فيه الكفاية للعمل ضد "الإرهابيين". وبحلول ذلك الوقت -أى توقيت سجنه- كان سويدية قد وصل إلى قناعة بأنه ليس ثمة أى مبرر سياسى أو عسكرى، يجيز تعذيب ومن ثم إعدام المدنيين الأبرياء باسم "الدفاع عن الديمقراطية".
ويسرد الكاتب حكاية رجل فى الستين من العمر ، كان له ابنان هما بالفعل من الأصوليين المطلوبين، ولذلك عذب ثم اقتيد إلى ساحة الموقع، وعلى مرأى من جميع العسكريين الحاضرين بال عليه قائد الكتيبة، ولما اعترض "سويدية" على هذه القذارة فوجئ بتوقيفه قيد التحقيق بتهمة سرقة قطاع غيار! وتلك كما يقول كانت بداية نزوله إلى الجحيم حيث قضى فى الزنزانة أربع سنوات تعرض فى أثنائها للإهانة والضرب المبرح ولمحاولة اغتيال، وعندما أطلق سراحه فى 1999 قرر النجاة بجلده والهرب من معسكر الاعتقال الكبير الذى هو جزائر الجنرالات بأى ثمن كان، وهكذا لجأ إلى فرنسا.
ومن الواضح أن كتاب "الحرب القذرة" وصمة عار فى جبين العرب جميعا والذين يلزمون الصمت تجاه ما يحدث فى الجزائر وما يحدث الآن فى مصر. ويبقى من المهم القول إنه رغم أن عرض سويدية مختصر وشجاع وشخصى، وأن خلاصاته تبعث الحزن والرعب فإن ثمة سؤالا كبيرا يظل يرافق قارئ هذا الكتاب على مدى فصوله الثلاثة عشر. وهذا السؤال هو حول كيفية حصول سويدية على هذا الكمّ من المعلومات وهو عمليا لم يكن سوى ضابط صغير فى جهاز عسكرى ضخم منخرط فى عمليات عسكرية واسعة النطاق ومتباعدة.
صحيح أن هناك 150 ألف شخص قتلوا وآلاف الناس اعتبروا فى عداد المفقودين وآلافا آخرين تعرضوا للتعذيب وترملت آلاف النساء وتيتم آلاف الأطفال، ودبّ الشلل فى المجتمع وحل الدمار فى الاقتصاد، لكن من المؤكد أن الكتاب يقدم جزءا بسيطا من الحقيقة المفجعة التى كانت وراء كل تلك المآسى.
إن كتاب حبيب سويدية وثيقة مهمة تسجل ما حدث فى الجزائر، ولكنه يكاد يكون تسجيلا لما يحدث فى مصر منذ الانقلاب على الرئيس الشرعى، فنحن أمام حرب قذرة يقودها الفريق السيسى ضد أبناء وطنه بإشارة خضراء من دول عدة لإجهاض الربيع العربى بالكلية؛ ليست مصر وحدها فالربيع لا يسر الغرب ولا حكومات الخليج الدكتاتورية التى تطفح بكراهية الربيع وكراهية الحرية التى بدأت تنتشر فى الدول التى بدأت تنظر نحو الديمقراطية؛ لكن على الفريق السيسى السكران بالسلطة أن يعى جيدا أن مرحلة الثورات الحالية ليست كمراحل الستينيات والسبعينيات؛ وأن عمق الثورات الشعبية أكبر بكثير من عمق أنصاف الثورات التى حدثت فى تلك الفترات المتلاحقة، فليس هناك منطق ولا استراتيجية عسكرية يمكنها تبرير قيام الجيش باغتيال آلاف المواطنين بذريعة (استئصال الإرهاب)، ولا شىء مطلقا يمكن أن يبرر الموت المجانى لعشرات آلاف المدنيين.
نواصل فى العدد القادم إن شاء الله تفصيلات "الحرب القذرة".
أحدث الكتاب منذ صدوره ضجة فى فرنسا والجزائر، ووجّهت المحكمة الجزائرية اتهامات للملازم حبيب سويدية بأنه "سعى لإضعاف معنويات الجيش الوطنى، وبث البلبلة فى صفوف القوات المسلحة، من خلال توجيه اتهامات مختلقة ضده، وأصدرت محكمة جزائرية حكما غيابيا بمعاقبته 20 عاما.
يقول مقدم الكتاب "فرديناندو أمبوزيماتو" وهو قاضى تحقيق سابق فى محكمة النقض العليا فى إيطاليا إنه اهتم لسنين عدية بملفات الإرهاب ولكنه عندما قرأ كتاب "الحرب القذرة" اكتشف الفارق الشاسع بين الواقع الجزائرى والطريقة التى قدمته بها وسائل الإعلام، عمليات القتل اليومية بحق مواطنين عزل ونساء وأطفال، هى بالنسبة لغالبية الأوروبيين من عمل إرهابيين إسلاميين متعصبين ودمويين. أما هو فلم يشك قط بأن أجهزة مؤسسات الوقاية والقمع متورطة فى هذه المجازر.
وأشار فرديناندو إلى أن إظهار الحقيقة واجب أخلاقى وحقيقة تاريخية، مؤكدا أن شهادة حبيب سويدية عالية المصداقية لسببين رئيسيين. فى المقام الأول أن دقة الأحداث التى يرويها كبيرة إلى درجة يصعب معها التصديق بأنه اختلقها وفى المقام الثانى أن كل ما يرويه متناغم بصورة مطلقة مع ما نقله مراقبون مهتمون بالواقع الجزائرى (منظمة العفو الدولية – مراسلون بلا حدود).
والجديد الذى أتى به الكتاب هو أنه يبين للمرة من الداخل العمل المحدد الذى يقوم به الجهاز العسكرى ومنظمات الأمن الجزائرية التى بقيت حتى ذلك الوقت كتيمة إلى أقصى حد.
ولم يغفل الكتاب السياق التاريخى والاقتصادى بتمركز الثروات بين أيدى بضع جماعات، ونهاية فترة الديمقراطية بإلغاء الانتخابات وانقلاب يناير 1992 وإشراف الجيش على تركيبة الحكومات والقضاء والتضليل الإعلامى.. أليس كل هذا يحدث فى مصر الآن؟!
ويحكى "سويدية" ما رآه بدقة، التعذيب، الإعدامات العرفية، التلاعُبات، واغتيال المدنيين، كاشفا الغِطاء عن أحد أكثر "المحرمات" فى المأساة الجزائرية، التى حرصت السلطات على عدم الاقتراب منها ألا وهى الآلية الداخلية لعمل الجيش الجزائرى.
ويكشف الكاتب وقاحة الجنرالات فى موضع تقدير العواقب، حشو الأدمغة وغسيل المخ الذى يُخضعون له جنودهم، وأيضا يأس الجنود المُكرهين على القيام بأفعال بربرية، وفتك المخدرات وعمليات التطهير الداخلية. سيكون لهذه الشهادة الاستثنائية دوى كبير بعيدا عن التضليل الإعلامى الذى كثيرا ما منع الرأى الأوروبى من إدراك البعد المخيف للحرب الدائرة فيما وراء المتوسط.
إن استراتيجية الحرب القذرة dirty war تهدف إلى تحقيق الهدف العسكرى بغض النظر عن الخسائر والضحايا الأبرياء، حيث لا تأخذ هذه الأنواع من الحروب فى حسابها الخسائر الإنسانية أو الحضارية، ولكنها تركز على سحق العدو لإخضاعه باستخدام القوة التدميرية المفرطة التى تهدم المكان وبنية الإنسان بل وحتى الحيوان والحياة، بما فى ذلك دور العبادة والمقدسات، لإرسال رسالة للعدو مفادها "أننا جئنا لسحقكم وماضون فى ذلك إلى النهاية حتى لو تم استسلامكم"، كما كان التتار يفعلون فى حروبهم مع أعدائهم.
مؤلف الكتاب حبيب سويدية اضطر إلى مغادرة الجزائر وسعى للجوء إلى فرنسا بعدما سجن فى الجزائر. وفى فرنسا قرر أن يتكلم لتكون هذه هى المرة الأولى التى ينشر فيها عضو سابق فى الجيش الجزائرى كتابا يتضمن شهادة صريحة وكاملة عن معنى أن تكون فردا فى قواته الخاصة خلال ذروة مواجهة الإسلاميين فى الجزائر.
ويقول "سويدية" إن ما حمله على نشر الكتاب هو الشعور بالندم ومحاولة هدم جدار الصمت الذى يحيط بجرائم الجيش، مشيرا إلى "رغبته فى إراحة ضميره وتحرير نفسه" من المشاركة فى تلك الجرائم التى ترتكب بحق الإنسانية بفضحها وشجبها بأشد النعوت والأوصاف. ويقول "لقد شاهدت الكثير الكثير من انتهاك الكرامة الإنسانية إلى حد لا يمكننى البقاء معه صامتا".
يقول "سويدية" فى مقدمة الكتاب: "رأيت زملاء لى يحرقون طفلا فى الخامسة عشرة من عمره حيا، ورأيت عسكريين يذبحون مدنيين وينسبون هذه الجرائم إلى "الإرهابيين"، ورأيت عقداء يقتلون أشخاصا بدم بارد لمجرد الشبهة، ورأيت ضباطا يعذبون إسلاميين حتى الموت (وما سيارة ترحيلات سجن أبو زعبل فى مصر عنا ببعيد).. رأيت أشياء كثيرة جدا لا أستطيع السكوت، وهذه أسباب كافية لتحطيم حاجز الصمت".
ويتناول المؤلف الاختلال فى النظر إلى ما يجرى فى الجزائر، فبينما تتسلط الأضواء الإعلامية بقوة على "أعمال الإسلاميين" وتشجب وتدان، غالبا ما تهمش الأعمال المهولة التى ارتكبها الجيش أو يجرى تجاهلها، ويعيد ذلك فى جانب منه إلى الشعار الغربى الجديد "خطر الأصولية الإسلامية" الذى حل محل الشعار القديم "خطر الشيوعية".
ويتطوع سويدية صاحب الخلفية الاجتماعية المتواضعة والمنحدر من ولاية تبسة الجزائرية والذى انضم إلى صفوف الجيش عام 1989 ليس لأسباب مادية بل لقناعات وطنية، إذ كان لا يزال وهج جبهة التحرير الوطنى التى حققت الاستقلال للجزائر وأنهت الاستعمار الفرنسى شديدا فى المخيلة العامة، يتطوع ليكشف النقاب عن الجرائم التى ارتكبها الجنرالات فى حق هذا البلد العربى صاحب لقب "بلد المليون شهيد".
فعلى إثر الفوز الكبير للإسلاميين فى الانتخابات المحلية عام 1990 والذى عكس فى جانب منه ملل الناس من حكم الحزب الواحد طيلة الأعوام الثلاثين الماضية ومن الفساد والإهمال، بادر الجيش إلى خلع رئيس الوزراء مولود حمروش واعتقال الشيخين عباسى مدنى وعلى بن حاج. ويحاول المؤلف تصوير تصاعد الأحداث من وجهة نظره وكيف انزلقت الجزائر ببطء فى دوامة ثارات العين بالعين والاستفزازات المتبادلة بين الإسلاميين والجيش.
وبدأ القمع يأخذ مُنحنى علنيا واضحا ومُخيفا مع بداية عام 1992، فقد عُذب آلاف الشباب وأرسلوا إلى معتقلات جنوب الجزائر (8 آلاف شاب)، أُعدم المئات بالرصاص وأُحرق العشرات أحياء، فهم الناس فيما بعد أن المعتقلات هى أفضل آلة لتفريخ العنف المضاد، وكان الجيش يعرف ذلك وكان يتعمد ذلك، كان الهاربون من القتل والحرق والاعتقال سواء من المدنيين أو العسكريين يتجهون لحمل السلاح نكاية فى الجيش، لا عجب أن الجيش نفسه كان يسهل هروب هؤلاء وانضمامهم إلى الإرهابيين، كانت المؤسسة العسكرية تُعرف ضمنيا باسم "الشركة الوطنية لتأهيل الإرهابيين"، كانت تكاد تدفع بالشعب كله لحمل السلاح ضدها، كل ذلك كان مطلوبا حتى يعطى قادة الجيش صلاحيات لا محدودة فى الفتك بالشعب وتطويقه والمحافظة على السلطات والامتيازات اللامحدودة.
وكان هناك ممارسات غاية فى القذارة مع النساء كذلك وبنات الجامعات تحديدا، حيث يتم اجبارهن على مواقعة رجال الاستخبارات حتى يتم السيطرة عليهم واستخدامهن لاحقا فى جمع المعلومات من داخل الجامعة.
ويحكى الكاتب أنه فى مارس 1993 جاءته الأوامر بالاستعداد لإحدى المهام، المهمة باختصار هى حراسة شاحنة تقل ما يقرب من 20 فردا من قوات الصاعقة مدججين بالخناجر والقنابل اليدوية والرشاشات، لحاهم شبه نامية، ويرتدون زيا مدنيا، فبدوا مثل الإرهابيين المسلحين.
وكانت الأوامر تقتضى بأن يحرسوهم حتى نقطة معينة فى مفترق الطرق ويتوقفوا عند ذلك، بينما تُكمل الشاحنة طريقها منفردة إلى قرية تُسمى "دوار الزعترية"، إحدى القرى التى انتخبت "الجبهة الإسلامية للإنفاذ وقت الانتخابات، وقد حان وقت العقاب، ذُبح العديد من أهل القرية بلا رحمة، واغتُصبت نساؤهم ونُهبت أموالهم، وخرجت الصحف فى اليوم التالى بالخبر التالى: "هجوم إرهابى على قرية الزعترية ينجم عنه دزينة من القتلى"!
تكررت تلك العملية كثيرا فيما بعد، ترتدى قوات الصاعقة ملابس مشابهة لملابس الإسلاميين ويطرقون الأبواب فى بعض القرى المغضوب عليها، قائلين "افتحوا نحن الأخوة"! ومن ثم يذبحون جميع أفراد الأسرة كالنعاج، قوات الجيش كانت تقتل باسم الإسلاميين، هكذا كان الوضع فى تلك الحقبة المنكودة.
ويذكر الكاتب أنه فى إحدى ليالى مايو 1994م ازدادت موجة الاعتقالات فى بلدة "الأخضرية"، تلقى أمرا بمرافقة ضباط استخبارات فى مهمة عسكرية، وفوجئ بأولئك الضباط يرتدون جلابيب، وقد أرسلوا لحاهم كما لو أنهم إسلاميون، وقاموا بمهاجمة بعض البيوت واقتادوا خمسة من الرجال، وقد وثقت أيدهم إلى الخلف، وألبسوا أقنعة حتى لا يروا شيئا، إلى موقع القيادة.
وفى شهادة لصحيفة "الأوبزرفر" البريطانية حول مذبحة بن طلحة، أكد أحد الجنود الجزائريين الهارب من الجيش والمقيم حاليا فى لندن: "أن أعضاء كتيبته أبلغوا فى إحدى الأمسيات فى يوليو الماضى بأنهم ذاهبون فى مهمة خاصة، ونقلوا بالطائرات ثم بالسيارات إلى تل مطلة على القرية، ويقول الجندى كنا نحو 130 رجلا، وتم حقننا بشىء ما قيل لنا إنه سيقوينا، ويزيدنا شجاعة، وعلمنا لاحقا أنه كان أفيونا"!!، ويروى الجندى السابق: "أمر المجندون بالبقاء على التل، بينما ذهب 25 من الجنود المحترفين إلى القرية، وطلبوا من المجندين عدم التحرك إلا إذا تلقوا إشارة نارية، وبعد ساعتين عاد الجنود فى مظهر مختلف تماما.. كانوا يضعون لحى مصطنعة، وثيابهم قذرة وقد تعطروا بعطر المسك الذى يستخدمه الإسلاميون عادة، وباختصار كانوا متنكرين بأعضاء الجماعة الإسلامية!!".
ولكن يبقى أن المهم فى رواية سويدية هو ما يرويه عن مشاهداته ومشاركاته الشخصية فى "القوات الخاصة" التى كانت مهماتها "قذرة" كما يقول، فبعد انضمامه إلى هذه القوات شهد بأم عينيه صنوف الرعب والعذاب، فمثلا يقول إنه عاين حرق زملائه حدثا يبلغ 15 عاما وهو حى يرزق، كما وقف على مشهد ذبح الجنود المتخفين على هيئة إرهابيين لمدنيين فى قراهم، وإلقاء القبض على مشتبه به وإعدامه دون الاكتراث بمحاكمته.
وهذه الشهادات التى تثير الاشمئزاز، تجعل هذا الكتاب متفردا فى تسليط الضوء على مسائل لم يكشف عنها من قبل، ليس فقط فيما يتعلق بالمواجهة مع الإسلاميين بل وفيما يتعلق بكيفية تسيير الأمور داخل الجيش الجزائرى نفسه، وتشاؤم جنرالاته وغسل أدمغة جنوده، وكذا عمليات التطهير الداخلية الرامية إلى تخليصه من أى أصوات معارضة، والمخدرات، والتعذيب والإيذاء.
وحسب شهادة سويدية، فإن ما شهدته سنوات الحرب المدنية الأولى (92-1995) من جرائم، اقترفتها مجموعات محدودة العدد تتراوح بين خمسة آلاف إلى ستة آلاف من أفراد القوات الخاصة. وخاضت هذه القوات "الخاصة" حربين أولاهما ضد "الإرهابيين"، ولم يجد سويدية غضاضة فى المشاركة فيها. أما الأخرى والأهم فهى "الحرب القذرة" فى حق المدنيين من الجزائريين وهى التى شعر سويدية تجاهها بالمقت الشديد، وشجبها بقوة.
ويصور "سويدية" كيف أن نتيجة الانتخابات فى بلاده كانت مفاجئة لكل الأطراف، وبالأخص رابحيها الذين صوت لهم معظم شباب الجزائر واللذين يشكلون 70% من الشعب الجزائرى الفتى.
وابتهج الإسلاميون بالنصر، وبدأوا بتسميات بلدياتهم بالبلديات الإسلامية بدلا من بلديات "الثورة من الشعب إلى الشعب"، وشيئا فشيئا بدأت مشاهد الإسلام الراديكالى تظهر، وفُتحت معسكرات تعلم القتال والرياضة، وبدأت حرب شاملة ضد الفساد فى البلاد أقضت مضاجع الفاسدين.
وفى عام 1993 ، يقول سويدية، بدأت الشكوك تساوره حول "الجيش حسن السيرة الذى يدافع عن الديمقراطية ضد الإسلاميين السيئين الذين يحاولون تدميرها". لكنه بقى صامتا ولم يتحدث عن تلك الشكوك إلى الآن، الأمر الذى يطرح علامة استفهام لا تنى السلطات الرسمية فى الجزائر تركز عليها فى هجومها ضد سويدية وكتابه والناشر الذى رعاه. لكن من ناحية أخرى فإن سويدية نفسه كان قد اعتقل سنة 1995 ووجهت له تهمة "السرقة" رسميا، وهى التهمة التى نشرت وقائعها السلطة وجاءت بشهودها بعدما نشر سويدية كتابه هذا. أما بحسب رواية سويدية نفسه فإن سبب سجنه الحقيقى هو محاولة إسكاته وإبعاده أطول فترة من الزمن بعد مشاهدته لحالات تعذيب قام بها ضباط فى الجيش بحق معارضين إلى درجة قتلهم، وكذلك بسبب انتقاده للمحاكمات السريعة التى جرت عليه نظرة متشككة من قبل مرءوسيه جوهرها أنه ليس متحمسا بما فيه الكفاية للعمل ضد "الإرهابيين". وبحلول ذلك الوقت -أى توقيت سجنه- كان سويدية قد وصل إلى قناعة بأنه ليس ثمة أى مبرر سياسى أو عسكرى، يجيز تعذيب ومن ثم إعدام المدنيين الأبرياء باسم "الدفاع عن الديمقراطية".
ويسرد الكاتب حكاية رجل فى الستين من العمر ، كان له ابنان هما بالفعل من الأصوليين المطلوبين، ولذلك عذب ثم اقتيد إلى ساحة الموقع، وعلى مرأى من جميع العسكريين الحاضرين بال عليه قائد الكتيبة، ولما اعترض "سويدية" على هذه القذارة فوجئ بتوقيفه قيد التحقيق بتهمة سرقة قطاع غيار! وتلك كما يقول كانت بداية نزوله إلى الجحيم حيث قضى فى الزنزانة أربع سنوات تعرض فى أثنائها للإهانة والضرب المبرح ولمحاولة اغتيال، وعندما أطلق سراحه فى 1999 قرر النجاة بجلده والهرب من معسكر الاعتقال الكبير الذى هو جزائر الجنرالات بأى ثمن كان، وهكذا لجأ إلى فرنسا.
ومن الواضح أن كتاب "الحرب القذرة" وصمة عار فى جبين العرب جميعا والذين يلزمون الصمت تجاه ما يحدث فى الجزائر وما يحدث الآن فى مصر. ويبقى من المهم القول إنه رغم أن عرض سويدية مختصر وشجاع وشخصى، وأن خلاصاته تبعث الحزن والرعب فإن ثمة سؤالا كبيرا يظل يرافق قارئ هذا الكتاب على مدى فصوله الثلاثة عشر. وهذا السؤال هو حول كيفية حصول سويدية على هذا الكمّ من المعلومات وهو عمليا لم يكن سوى ضابط صغير فى جهاز عسكرى ضخم منخرط فى عمليات عسكرية واسعة النطاق ومتباعدة.
صحيح أن هناك 150 ألف شخص قتلوا وآلاف الناس اعتبروا فى عداد المفقودين وآلافا آخرين تعرضوا للتعذيب وترملت آلاف النساء وتيتم آلاف الأطفال، ودبّ الشلل فى المجتمع وحل الدمار فى الاقتصاد، لكن من المؤكد أن الكتاب يقدم جزءا بسيطا من الحقيقة المفجعة التى كانت وراء كل تلك المآسى.
إن كتاب حبيب سويدية وثيقة مهمة تسجل ما حدث فى الجزائر، ولكنه يكاد يكون تسجيلا لما يحدث فى مصر منذ الانقلاب على الرئيس الشرعى، فنحن أمام حرب قذرة يقودها الفريق السيسى ضد أبناء وطنه بإشارة خضراء من دول عدة لإجهاض الربيع العربى بالكلية؛ ليست مصر وحدها فالربيع لا يسر الغرب ولا حكومات الخليج الدكتاتورية التى تطفح بكراهية الربيع وكراهية الحرية التى بدأت تنتشر فى الدول التى بدأت تنظر نحو الديمقراطية؛ لكن على الفريق السيسى السكران بالسلطة أن يعى جيدا أن مرحلة الثورات الحالية ليست كمراحل الستينيات والسبعينيات؛ وأن عمق الثورات الشعبية أكبر بكثير من عمق أنصاف الثورات التى حدثت فى تلك الفترات المتلاحقة، فليس هناك منطق ولا استراتيجية عسكرية يمكنها تبرير قيام الجيش باغتيال آلاف المواطنين بذريعة (استئصال الإرهاب)، ولا شىء مطلقا يمكن أن يبرر الموت المجانى لعشرات آلاف المدنيين.
نواصل فى العدد القادم إن شاء الله تفصيلات "الحرب القذرة".
No comments:
Post a Comment