محاولة تركيع مصر لم تبدأ في ٣٠ يونيو كما يشاهد الآن بل بدأت فعليا بعد هزيمة حزيران ٦٧, وتحديدا بعد الهزيمة النفسية المروعة التي تلقاها عبدالناصر الذي أدرك أنه مجبر على تقديم تنازلات غير معلنة على الصعيد الدولي, لإدراكه أن نظامه مهددا بالخطر، فضلا عن الأمن القومي المصري بعد احتلال سيناء.
استغلت ظروف ناصر من قبل القوى الدولية ومورست عليه ضغوطات شديدة من أجل عودته للحضن الغربي لكنه لم يقدم على أي خطوة علنية في هذا الاتجاه باستثناء قبوله لمبادرة روجرز.
أدرك المعسكر الغربي أن كبرياء ناصر لن تسمح له أن يقدم تنازل مهين ومذل وأنه سيستمر في حرب الاستنزاف التي كانت أشبه باللواء الأخير الذي يحمله في وجه إسرائيل فآثر المعسكر الغربي أن يشرع في التخطيط لما بعد ناصر!
أقدم عبدالناصر على خطوة غير مفهومة بالنسبة للرأي العام العربي عندما عين السادات نائبا للرئيس الذي لم يكن قطعا من صقور الضباط الأحرار ولم يتسلم أي منصب تنفيذي طيلة ١٨عاما الماضية من حكم ناصر.
وإلى هذا اليوم لم يعلم أحدا لماذا اختار ناصر السادات نائبا له؟! فالبعض قال أن السادات كان مطواعا ولم يكن ناصر ليعين أحد الضباط الأقوياء حتى لا يشاطر الزعيم المشهد العام، والبعض رجح فرضية سد النفوذ المتزايد للضباط الأحرار بعد الهزيمة النفسية لناصر...
هناك فرضية أخرى تقول أن ناصر تلقى تهديدات خارجية لتعيين السادات نائبا له حتى يضمن المعسكر الغربي عدم انقطاع خط التفاوض في حال اغتياله، فما كان من ناصر إلا أن عين السادات مقابل ضمانات و وعود بعودة سيناء دون قتال لكن ذلك لم يحدث!
المثير أن ناصر عين السادات قبل وفاته بأشهر قليلة التي أشار كثيرون أنها كانت عملية اغتيال متكاملة الأركان عن طريق التسميم، لتطوى صفحة ناصر المثيرة دون تحقق حلم المشروع القومي العربي!
لم يقبل الحرس القديم من الناصريين فرض شخصية ثانوية كالسادات عليهم فخططوا لانقلاب ضده لكن مخابرات أجنبية ساعدته في كشفهم!
وقام هو بدوره بثورة جديدة تخلص فيها من كل الناصريين ، واكتملت عملية ارتماء السادات في حضن المعسكر الغربي بعد أن طرد ١٧٠٠٠ ألف من الخبراء الروس فكانت تلك الخطوة الشهيرة بمثابة إطلاق رصاصة الرحمة على المشروع الناصري.
اتضح خط مسار السياسة الخارجية للسادات بعد عملية تطهير الدولة من الناصريين و الروس لكن انفتاحه على المعسكر الغربي لن يلقى قبولا لدى الشارع المصري و كرامة مصر لم تسترد بعد، فكان احتلال سيناء بمثابة عقبة أمام التحالف المباشر مع أعداء الأمس (المعسكر الغربي).
نجح السادات في عبور خط بارليف ونجح في الحصول على شعبية لا بأس بها، لكنه لم يسترد سيناء، لذا بدأ بفتح خط التفاوض مباشرة مع الأمريكان والإسرائيليين لاحقا. ونجح في استرداد سيناء كاملة دون طلقة واحدة، مقابل تنازل مصر عن دورها المحوري في المنطقة وانسحابها من معركة العرب ضد الصهاينة في فلسطين!
طيلة تلك الفترة كان للسادات تواصل مباشر مع مخابرات الدول العربية التي كانت على عداء مع مصر إبان حكم ناصر.
وكان لهذه الدول دور كبير في تقليص دور مصر المحوري في المنطقة بالإضافة إلى إسهامها المباشر في اكتمال عملية ارتماء مصر في حضن المعسكر الغربي.
لم يحسن السادات عملية احتواء غضب الشارع المصري من معاهدة كامب ديفد، فالشعب المصري بأصالته يؤمن بأن القضية ليست مجرد سيناء وأن على مصر مهام تاريخية إزاء الأمة العربية، ومن الخزي أن تتنصل مصر من دورها التاريخي.
حدثت قبل وفاة السادات بأشهر حادثة غامضة وهي عملية مصرع وزير الدفاع أحمد بدوي مع عدد من خيرة ضباط الجيش المصري في انفجار لطوافة كانت تقلهم، اتضح لاحقا أنها كانت مقيدة بسلك كهربائي! مما يؤكد أن الحادثة مدبرة وليست مجرد حادثة!
وتشير بعض التقارير إلى أنه كان هناك خلاف جذري بين السادات وأحمد بدوي حول كثير من الملفات وأهمها فساد المؤسسة العسكرية، كما أن السادات صرح لبدوي عن رغبته في إحالة عدد من الضباط إلى المعاش الأمر الذي رفضه بدوي بحجة نزاهتهم!
بعد اتساع الفجوة بين بدوي والسادات وإيمان بدوي بأن السادات ونائبه مبارك قد عقدا العزم على الاستمرار في عملية إفساد المؤسسة العسكرية من خلال العمولات بالتزامن مع إزاحة أي ضابط نزيه يقف أمام طريقهم، عزم بدوي على المبادرة بطريقته كعسكري!
يقال إن بدويا أدرك أنه سيقصى من موقعه لأن يعد أكبر عقبة أمام السادات ونائبه فما كان منه إلا أنه فكر في القيام بانقلاب عسكري يقوم من خلاله بتطهير الدولة والمؤسسة العسكرية، فحدثت عملية الاغتيال بعد أيام قليلة على تصريحه لأحد المقربين منه بما عقد عليه!
بعد اغتيال بدوي أحكم السادات قبضته على المؤسسة العسكرية ولم يتم ذلك طويلا إذ اغتيل هو الآخر مما جعل التركة تؤول إلى نائبه مبارك الذي يشاطره المبادئ والأولويات.
ظلت المؤسسة العسكرية طيلة ٣٠ عاما بمنأى عن المستجدات السياسية في المنطقة إذ إن عقيدة الجيش المصري تحولت في ظل حكم مبارك إلى أن الدفاع عن التراب المصري هو المهمة الأساسية لها، ولم يكن في الجيش من ينافس مبارك على المشهد السياسي داخل مصر مما جعل المؤسسة العسكرية تنكفئ على نفسها وتغرق في بحر العمولات وعالم البيزنس وأصبحت أشبه ما تكون بطبقة برجوازية في البلد.
طيلة هذه الفترة كانت أمريكا الحليف الأبرز للمؤسسة العسكرية في مصر، وضمن ذلك بقاء مصر فيما يسمى محور دول الاعتدال، بالإضافة إلى انحسار الدور المحوري لمصر.
ومع اعتزال الجيش للحياة السياسية داخل مصر في ظل وجود رجالات مبارك المخلصين انصرف اهتمام مبارك للأجهزة الأمنية على حساب الجيش، وذلك لإقصاء خصومه السياسيين في الداخل، فتضخمت المؤسسة الأمنية، مما جعل المواطن المصري يحتفظ بشيء من الود في ذاكرته تجاه المؤسسة العسكرية، ونسي ما ذاقه في الستينات والسبعينات من الويلات على يد رجالات المؤسسة العسكرية.
وبعد ثورة ٢٥ يناير وتخلي الجيش عن مبارك عادت المؤسسة العسكرية للحياة السياسية، ولم يستمر شهر العسل طويلا بين شباب الثورة والمؤسسة العسكرية بعدما أدرك الشباب أن المؤسسة العسكرية تقف ضد عملية التغيير الحقيقي والتحول الديمقراطي والحياة المدنية التي تهدد امتيازات المؤسسة.
بالإضافة إلى أن التحالف الوثيق بين الجيش وأمريكا مكن أميركا من فرض أجندتها الكلاسيكية على الحياة السياسية داخل مصر
فأمريكا وإن زهدت بشخص محترق كمبارك، لم تكن لتزهد بحليف قوي ومهم بالمنطقة كالجيش المصري! فظلت المؤسسة العسكرية صامدة ضد التغيير والتحول الديمقراطي الحقيقي.
فكان للمؤسسة العسكرية عدة أولويات لا يضمن بقاءها في حال التحول الديمقراطي، ألا وهي ضمان هدوء خط المواجهة مع إسرائيل وعدم الانخراط في مغامرات عربية أخرى وبقاء مصر ضمن ما يسمى بمحور الاعتدال وعدم الخروج عن الإملاءات الأمريكية في المنطقة وأخيرا ضمان بقاء الامتيازات المادية للمؤسسة العسكرية.
وبعد أن أقصى الرئيس مرسي الحرس القديم عن المؤسسة العسكرية اعتقد الجميع أن الجيش رضخ للإدارة المدنية ولم يعد ذلك الغول الذي يهدد مدنية الحياة السياسية، لكن ذلك سرعان ما تبخر بعدما نفذ الجيش انقلابه الأخير في ٣٠ يونيو وعاد للمشهد من جديد وسط دعم من أمريكا وحلفائها في المنطقة.
واتضح الآن أن القضية ليست مجرد إسقاط نظام مبارك وفلوله المنتفعين من رجال الأعمال، بل هي أكبر من ذلك بكثير، إذ تنظر أمريكا وحلفائها في المنطقة أن إقصاء المؤسسة العسكرية عن الحياة السياسية في مصر يعد ضربة لنفوذ أميركا في المنطقة وخسارة لأهم حليف لها يحقق أجندتها ويحافظ على وجود ما يسمى بمحور الاعتدال ويضمن أمن وسلامة إسرائيل ولا يهدد مصالحها في الخليج، ويبقى المنطقة تحت الهيمنة الأميركية بوجه عام.
فسيادة الشعب المصري وتحقيقه للتحول الديمقراطي ليس مجرد تحول دولة من نظام عسكري استبدادي إلى نظام ديمقراطي مدني يحقق لشعبه العدالة الاجتماعية وحسب، بل هي إعادة رسم لخارطة المنطقة من جديد، وتغيير حقيقي لوجه المنطقة بأكملها.
No comments:
Post a Comment