محمد شكر
للفيلسوف الراحل الدكتور زكى نجيب محمود قصة قصيرة تحكى عن بلد يسكنه فقراء ويتوسطه جبل عالى على قمته منطقة سكنية غاية فى النظافة والجمال يسكنها الحكام والأغنياء. وكان هؤلاء القوم يجتمعون كل ليلة حول موائد الطعام الشهى والمشروبات اللذيذة يأكلون ويشربون وينعمون بسهرتهم، وعلى هامش هذا النعيم يفكرون فى أحوال الشعب الغلبان الساكن عند سفح الجبل. كانوا يناقشون حلولا لمشاكل الشعب الذى لا يطيقون حتى الإقتراب منه بسبب فقره المدقع ومظهره القذر. وأثناء المناقشات كان صياحهم يتعالى مكثرين من ترديد لفظ "الشعب" وعبارات رنانة مثل "مصلحة الشعب" و"حقوق الشعب" و"من أجل الشعب". وتصادف أن كان هناك زائرا لأهل تلك القمة شاركهم فى ملذاتهم وإستمع إلى مداولاتهم الساخنة حول إصلاح أمور الشعب. وعندما هبط هذا الزائر من قمة الجبل وجد عند السفح إمرأة عجوز قد حطمتها السنون بما عانت فيها من عوز ومرض. كانت المرأة تفترش رقعة من الخيش رصّت عليها قطعا من الحلوى، وكلما مر بها شخص نادت على بضاعتها وهى تهش عنها الذباب: "حلاوة يازباين". فتوقف عندها صاحبنا سائلا "بكم تبيعين كل هذه الحلوى يا أمى؟" فأجابت بدهشة" "كلها؟ إنها بقرشين". فأخرج صاحبنا القرشين من جيبه وأخذ الحلوى، ودعت له العجوز بسعة الرزق وطول العمر ثم سألته من أين أتى. ولما أجابها بأنه قادم من عند الناس اللى فوق الذين شغلوا أنفسهم بإصلاح أمور الشعب اللى تحت أخذت تدعوا لهم بدوام الصحة وسعة الرزق وطول العمر وأن يبارك الله لها ولكل الغلابا فيهم.
مغزى هذه القصة يمكن إسقاطه على العلاقة الإجتماعية فى مصر بين الناس اللى فوق (سميهم الأغنياء أو الحكام أو النخبة) والناس اللى تحت (وهم من يمكن تعريفهم بجموع الناس الذين لا يظهروا ضيوفا فى برامج التليفزيون)، فهى تشير إلى علاقة يجود فيها المانح المقتدر صاحب المشيئة على المحتاج المسلوب الإرادة بالمال أو بالمساعدة أو حتى بالوعود ويتقبلها المحتاج شاكرا داعيا للمانح أن يزيد الله له من العطاء فقد يناله هو أيضا بعض الفتات.
صحيح أن هذه العلاقة قد تكون مدفوعة بحب الخير والرغبة فى مساعدة المحتاج لكنها قد تكون مدفوعة أيضا بنزعة لإستغلال حاجة الناس اللى تحت لتحقيق مآرب سياسية أو إقتصادية لمنفعة اللى فوق. وفى الحالتين فهى علاقة غير صحية لا تبنى مجتمعا فتيا لأنها تتستر على مبدأ العدالة الإجتماعية. ومن هذا المدخل بالتحديد يجب وضع هذه العلاقة تحت المجهر ونحن بصدد وضع العدالة الإجتماعية وكرامة الإنسان فى المكانة التى تستحقانهما على قمة منظومة القيم المصرية بعد الثورة. فالثورة تحتاج عمل فكرى يوازى العمل الميدانى.
العدالة الإجتماعية - التى هى أحد أركان ثالوث شعار الثورة - لها ركيزتان أساسيتان وهما تأمين الحاجات الضرورية لحياة المواطن وتحقيق مبدأ التكافل الإجتماعى. ولأن مبدأ التكافل الإجتماعى له بُعد دينى واضح بل إنه فرض عين فى الإسلام من خلال زكاة المال فقد لقى إستجابة من المانح والمتلقى على السواء وإتسع نطاق تطبيقه فى مصر عن طريق الجماعات الدينية بالذات والتى حصدت تعاطفا شعبيا هائلا من خلال تنظيمها لآليات هذه العمل: يعنى مساعدة المحتاجين. لكن هل إقتصار العمل على محور التكافل الإجتماعى فقط يعنى التقدم نحو تحقيق العدالة الإجتماعية؟ بالطبع لا إذا لم يكن هناك عمل موازى من الدولة لتأمين الحد الأدنى من الحاجات لكل الناس فى العمل والتعليم والعلاج والسكن بل وحتى الترفيه.
فالعدالة الإجتماعية تبدأ بتوفير هذه الحاجات الضرورية لكل الناس (وليس لقلة متميزة). وهذا دور الدولة بإمتياز لأنه يعتمد على مؤسساتها ولايمكن للأفراد والجماعات تحقيقه مهما حسنت النوايا. فأشكال التكافل الإجتماعى مثل الصدقات والمساعدات العينية قد تسد حاجة المحتاج مؤقتا لكنها لا تصل إلى مبلغ العدالة الإجتماعية لأنها ببساطة لا تحررهذا المحتاج من ربقة الحاجة أصلا، هى فقط تمده بسرسوب من المساعدة فى وقت معلوم ليستعين بها على إستمرار حياته العشوائية.
تحرير المحتاجين من عوز الحاجة هو مناط العدالة الإجتماعية - وهو هدف الثورة. لكننا إستعضنا عنه فى عهد السقوط - ولا زلنا - بمسكنات تجلت فى أشكال مختلفة من أعمال "الخير": شئ مما يمكن أن نطلق عليه "نظرية السرسوب"، وهى بالطبع ليست نظرية بالمعنى العلمى لكن مقوماتها تتعارض تماما مع فكرة العدالة الإجتماعية كما سيتضح فيما يلى. فالسرسوب كما نعلم هو قطرات الماء القليلة التى تتساقط من أعلى إلى أسفل، وهى وإن كانت قد تنقذ من هلاك إلا أنها لا تقيم حياة.
السرسوب يتطلب فرقا فى المنسوب لكى تتساقط القطرات، وهذا الفرق بالمعنى الإجتماعى يعنى تفاوتا عريضا فى حياة طبقتين فى المجتمع: طبقة قادرة مانحة وطبقة محرومة من حقوقها الأساسية فى ضروريات الحياة وتعيش عما تلتقطه مما يلقى به إليها القادرون. وبما أن السرسوب لا يروى عطشى ولا ينبت زرعا فلن يحتفى به إلا المشرف على الهلاك. لذلك تتواضع قيمته كثيرا فى المجتمعات التى ترتقى بمستوى معيشة المواطنيين بعيدا عن حدود الهلاك المعيشى، وهو شرط العدالة الإجتماعية كما ذكرنا. وبعيدا عن إخفاق مفهوم السرسوب هذا فى إقتلاع أصل المشكلة وهى الظلم الإجتماعى المؤدى لإنتشار الفقر نجد أن المصيبة الحقيقية تكمن فى أنه يؤدى لتغييب العقل عن حقيقة ساطعة. والحقيقة هى أن هناك نظاما جائرا قد أدى إلى إفقار جموع كبيرة من الناس اللى تحت وبالتالى تعاظم إحتياجهم للسرسوب الذى يقيم حياتهم بالكاد. الحقيقة أن الظلم الإجتماعى صارخ فى مصر لكن الإستغراق فى البحث عن السرسوب وإستجداؤه شغل جموع المظلومين عن مواجهة تلك الحقيقة بل وعن إدراكها أحيانا.
ففى غياب نظام قومى للتأمين الصحى يتيح العلاج للجميع بدون تمييز على أساس القدرة المالية سيُفتح سرسوب الخدمات الصحية المجانية أو المخفضة فى دور العبادة ومقارات المنظمات النقابية وسيرحب بها المستفيدين شاكرين متناسين أن الأصل هو وفاء الدولة بإتاحة نظام عادل للتأمين الصحى.
وفى غياب خدمات التعليم العام سيُفتح سرسوب خدمات الدروس الخصوصية المجانية أو المخفضة وسيتقبله التلاميذ وأهاليهم بالشكر والعرفان متناسين أن من حقهم على الدولة إتاحة نظام عادل للتعليم المجانى فى المراحل الإلزامية. وفى غياب إقتصاد يوازن بين المرتبات والأسعار سيُفتح أيضا سرسوب المعونات العينية (الدقيق والزيت والسكر والبطاطين وخلافه) والتى قد تكون طريقا لإكتساب شعبية قد تترجم إلى أصوات إنتخابية حين يحين الوقت.
وقل مثل ذلك فى غياب فرص العمل - والتى هى مسئولية الدولة بالدرجة الأولى من خلال سياساتها - لأن ذلك سَيَفتح سرسوب التوظيف لكن غالبا من باب الإعانة وتحميل الناس لجميل المانح وليس من باب دعم الإقتصاد المُنتِج، وسيستفيد من هذا السرسوب فئة قليلة من أهل وعشيرة دائرة صاحب المنحة، لكن هذا التوجه الطيب الجائر سيزيد من تنامى مشاعر الكراهية بين أبناء الشعب الواحد. الحقيقة الساطعة فى هذه النقطة بالتحديد أن نسبة البطالة (بما فيها البطالة المقنّعة) فى مصر تربو اليوم على العشرين بالمئة ومواجهتها تستلزم خطة قومية لتنمية بشرية وإقتصادية ولن يجدى أسلوب سرسوبا من هنا وسرسوبا من هناك فى حلها، وخصوصا إذا إقترن بحصاد فوائد إقتصادية أو سياسية من المستهدفين بالإعانة.
لقد أصبح مفهوم سرسوب الرزق هذا موروثا ثقيلا منذ عهد الإنفتاح السبهللى للرئيس "المؤمن" مرورا بعهد النهب المنظم للرئيس المخلوع. عندما تطرق ذلك الرئيس ذات يوم للحديث عن إنجازات الحكومة فى مجالات تيسيرات الجمارك وتخفيضات الضرائب وغيرها مما يدعم نشاطات رجال الأعمال بالضرورة سأله مضيفه عن علاقة ذلك بمعاناة الناس ومكابدة الفقراء فى مصر فقال إن هذه الإنجازات موجهة أيضا لصالح الفقراء لأن المشروعات التى سيستثمر الأغنياء أموالهم فيها ستفتح أيضا فرص العمل والرزق لجموع الفقراء! يعنى عندما ينتفح ينبوع الثروة لدى الأغنياء فسينال منه الفقراء بإذن الله سرسوبا بعد سرسوب.
الخلاصة أن نظرية السرسوب هذه تنتشر فى المجتمعات التى لا تكفل الرزق الذى يُجنّب المحتاجين تسَوّل الصدقات من الأغنياء ولا تكفل أيضا العدل الذى يُجنّب المظلومين تسَوّل الحق من أكابر القوم. هى لا تزين الإستغلال الإقتصادى فقط بل تفرز أيضا علاقات إجتماعية مريضة ومتوترة تتعارض ليس فقط مع مبدأ العدالة الإجتماعية كما أشرنا لكن أيضا مع مبدأ الكرامة الإنسانية. ألم تتزامن تعبيرات شائعة فى مصر الآن من أمثال "أنا خدامك يا باشا" أو "أنا تحت أمرك وتحت أمر الباشا الصغيّر" مع تفشى مفهوم سرسوب الرزق؟ أليست هذه العبارات دليلا على طبائع الهزيمة النفسية أمام الحاجة لسرسوب الرزق؟ ألم تتوارى كرامة الناس - بفعل الفقر والإستغلال الإقتصادى - خلف هذا المفهوم الذى يتستر بالفعل على المشكلة دون أى محاولة لإقتلاع جذورها؟
ألم يأن الأوان لطرح وتبنى فكرا ثوريا ينقى العقول والنفوس من تركة ثقافية أضرت كثيرا بالعلاقات الإجتماعية وبالإقتصاد وبمبدأ العدالة الإجتماعية نفسه؟ ألم يأن الأوان لينشغل بعضنا على الأقل بفكر يؤسس لمجتمع ما بعد الثورة بدلا من إستغراق الجميع فى العمل السياسى الذى يبدو أنه مفتقرا لفكر البناء
No comments:
Post a Comment